في البدء كانت «وثيقة مكة» لوقف نزيف الدم العراقي ومن ثم جاء «اتفاق مكة» لوقف الاقتتال الفلسطيني العبثي، وكما تأملنا خيرا من الحدث الأول ولم يصمد طويلا نتأمل خيرا من الثاني ونأمل أن يصمد وينتج حلا دائما فإننا كنا ولانزال نأمل أن تبلور المساعي الحميدة التي تبذلها الرياض وطهران وجامعة الدول العربية حلا مشرفا للأزمة اللبنانية يعيد لبنان الى دائرة عروبته ومقاومته وتوازنه الداخلي.
الذين يبحثون عن حلول سحرية وجذرية تشبه «المعجزة» لهذه الملفات المعقدة والمتشابكة بـ «فرمانات» ملكية أو جمهورية - لا فرق - يحملون أحلاما وردية في النهار ويطلبون حلولا تعجيزية في الواقع أكثر مما يبحثون عن حلول واقعية معقولة.
ثم إن كل من يبحث في هذه اللحظة التاريخية المتشابكة عن حلول «ايديولوجية» أو «رؤيوية» أو «فقهية» أو «دعوية» لهذه الملفات السياسية الأمنية والعسكرية والاستراتيجية بامتياز يكون من السذج أقرب منه للإخلاص أو الإيمان أو العقل مهما كانت درجات علمه أو تقواه أو ورعه.
ليس صحيحا أبدا أن مجرد اقتناع طهران ودمشق بحلٍ ما لملف العراق يمكن وقف التقاتل العراقي الداخلي.
تماما كما أنه ليس صحيحا أن مجرد توافق مصر وسورية على أمرٍ ما بشأن مستقبل التسوية الفلسطينية ينتج حلا للتناحر الفلسطيني.
الشيء نفسه ينطبق على الحال اللبنانية على رغم اختلاف وضعه وخصوصياته وعدم وقوعه بعد في فخ الاقتتال ولكن ليس بالضرورة أبدا بفضل طهران والرياض أو أية عاصمة أخرى مهما علا شأنها أو كبر نفوذها أو صغر.
بتقديري الشخصي المتواضع ان ما يجمع بين هذه الملفات الثلاثة السياسية - الأمنية - الاستراتيجية بامتياز نقطة واحدة يمكن فيها اتجاه الحل أو الفشل وما عدا ذلك يحسب في التفاصيل. والأمر يعود الى اصحاب الدار قبل دول الجوار.
في السياسة أمر مهم للغاية اسمه «تقدير الموقف» وأمر آخر لا يقل عنه أهمية اسمه «اتجاه البوصلة» في الصراعات أو ما يسمى أحيانا بتحديد أو تشخيص الأولويات.
قبل سنة أو يزيد من الغزو الأنجلو - أميركاني للعراق كانت تدور نقاشات موسعة في العاصمة الإيرانية داخل أوساط المعارضة العراقية «المفككة» والمتنازعة و«المتناحرة» أحيانا حول السبل الكفيلة للاطاحة بحكم صدام وما هي الأنجع أكثر من غيرها... وفجأة ظهر في الأفق رجل سياسي محنك لكنه متهم بأنه «تاجر سياسة» استطاع من خلال علاقاته الوثيقة بدوائر الاستخبارات الأميركية وغيرها أن يقنع دوائر العراقيين «المفككة» بأن الأميركيين بصدد إحداث تغيير جذري في معادلة حكم العراق التاريخية وأنهم مستعدون أن ينقلوا الحكم في بغداد من «السنية السياسية» الى «الشيعية السياسية» ولكن بتحالفات وتحركات ومناورات و... معقدة ومتشابكة للغاية... وكان يقول كل ما أريده منكم اطلاق يدي في المناورة وأنا آتي لكم بالحل... ودخل الرجل على كل الدوائر التي تخطر على بال أحد... لقد قلت يومها إنه يريد أن يلبس «عباءة» الشرعية الدينية «الشيعية» ولا غير، وبعد ذلك لن يهمه شيء آخر وفي نهاية المطاف عندما تتحقق المهمة سيقول «لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل» ولاسيما اذا ما فشلت مهمته يوما... لكن المشكلة برأيي لم تكن في هذا الرجل، فمثله كثر يظهرون ويختفون في الأزمات والحروب، وهو قطعا لم يكن العامل الوحيد فيما حصل بعد ذلك في العراق والأمر يتعدى بعض رجال الدين في هذه الطائفة أو تلك أو في هذه القومية أو تلك... ما أردته من استحضار هذه القصة هو ذلك الاعتقاد السائد الذي نشأ على قواعد ذلك الزيف والخداع الكبير - من وجود أسلحة دمار شاملة إلى... - الاعتقاد الذي انقسم الى قسمين قسم صار معتقدا اعتقادا راسخا أن أميركا قادمة الى العراق «لإطفاء النيران» التي اشعلتها لعقود في الجسم العراقي لمصلحة لها تبدو أنها «متفقة» أو تتقاطع مع مصالحنا! والقسم الثاني وبسبب «عجزه التكويني» في صفوف المعارضة صار يقول إن ما صنعه الاستعمار من معادلة «كمبيوترية» معقدة في العراق لا يمكن لأحد تفكيكها وإعادة بنائها على أسس مختلفة سوى الاستعمار نفسه... ومن ثم ندخل نحن على الخط لنقطف الثمار!.
وهنا كانت المصيبة وهنا كان بيت القصيد وهنا اشتبكنا مع «الإخوان» وقلنا لهم إن تقديركم للموقف خاطئ وخطير واتجاه البوصلة عندكم لن يؤدي الى الفلاح بل الى التجزئة والتفكيك وخسارة الموقف بالتأكيد. وأضفنا عليهم، أن أميركا قادمة الى المنطقة لتنقل الحرب من ديار الغرب الكبرى الى ديار الشرق الصغرى وأنها مصممة على اشعال عشرات الحرائق الصغرى فوق بلادنا وتفكيك كل شيء وليس النظام الذي تقاتلون فقط!.
لم يكن وقتها بعد قد حان الإعلان بعد عن «الشرق الأوسط لا الكبير ولا الموسع ولا الجديد» من قبل المحافظين الجدد... لكننا وبسبب التجربتين الفلسطينية واللبنانية المليئتين بالدروس والعبر استشرفنا المستقبل ولم يقتنع أحد من كبار الرموز المعنية بالملف العراقي و«ناموا على بساط من حرير» الى أن «استفاقوا» أخيرا أو هكذا أرادوا الإيحاء وربما لركوب موجة الوعي العربي الإسلامي العام فقالوا في دافوس أخيرا: «لقد كان قرار غزو العراق قرارا أحمق أو أبله...» ولكن... بعد فوات الأوان أو بعد خراب البصرة وبغداد والموصل والعراق للأسف الشديد! استحضرت هذه الحكاية في هذه اللحظة التاريخية باعتباري كنت «شاهدا على العصر» فيها في كثير من تفاصيلها لا مجال لشرحها فقط لأقول إن المشكلة الرئيسية في الملفات الثلاثة التي ابتدأنا بها المقال هي من صنع أهل البلد أنفسهم أولا وان الحل الأمثل يكمن عندهم ايضا وان نجاح أي حل حتى لو أتي بمساعدة الجوار القريب أو البعيد لابد من أن يكون مستندا الى «تقدير صحيح» وسليم للموقف وان يكون اتجاه البوصلة اثناء خوض الصراعات صحيحا... وان المشكلة بالأساس سياسية بامتياز جدا جدا.
ولهذا فإن القيادة اللبنانية للمعارضة وبزعامة الأمين العام لحزب الله اللبناني وبعد الملحمة البطولية التي سطرتها على أرض المعركة الأصلية مع «الجيش الذي لا يقهر» والدولة العظمى التي لم يتجرأ أحد على رفض طلب لها كان باستطاعتها بعد انتهاء المعارك العسكرية وبدء المعارك السياسية ان تحسم المعركة الثانية بـ 24 ساعة إن أرادت ولكن بأي ثمن؟! حرب مذهبية! تفكيك البلاد! وتقسيمها حرب أهلية!... الخ ولذلك تراها صبرت وغطت على الجرح ولاتزال الى حين حلول «تقدير الموقف الصحيح»... هكذا يجب أن يرتقي أصحاب الشأن العراقي في الموقف... وهذا ما نتأمله من إخواننا الفلسطينيين وهم أصحب المدرسة الأولى... وكل اتفاق جديد في مكة وأنتم بألف خير... «وأهل مكة أدرى بشعابها». بالتأكيد!.
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1630 - الأربعاء 21 فبراير 2007م الموافق 03 صفر 1428هـ