أمس استقبلت البحرين مجددا المفكر اللبناني المعولم «علي حرب»، وامس ايضا نشرت «الوسط» الحلقة الاولى من مقال «كيف نقرأ «حرب» بعد التفكيك ؟»، وهذه هي الحلقة الثانية والاخيرة من المقال.
أمراض الدين وأعطال الحداثة
حلل في مؤلفه «الإنسان الأدنى، 2005»، حاجة مجتمعاتنا إلى الإصلاح انطلاقا من المساءلة والفحص لما يتهدد الإنسانية، حيث لم يعد يجدي فيها المقاربات والمعالجات بالعملة الفكرية السائدة والمفلسة، لاسيما والأزمة تتجاوز الثنائيات العاملة على الجبهتين المتصادمتين (الإسلام والغرب، أو الدين والحداثة)، إلى المجتمع البشري والعقل الكوني بمختلف أنماطه ونماذجه. انتقد الحداثة بمثل ما انتقد الأسلمة، مذكرا بأن ما يجري على أرض الواقع المضطرب والمضطرم، بالأحداث والأزمات يكذب خطاب الدعوة ويفضح هشاشة الأطروحة، فالأسلمة في رأيه الجريء والصريح، ليست الحل أو المخرج، بقدر ما هي العائق والمأزق، على ما يترجم الشعار الإسلامي على يد الداعية التراثي أو الجهادي الأصولي، ومختلف وجوه الحياة وشؤونها، من حجب المرأة إلى تحريم الغناء، وفتاوى الحسبة إلى مصادرة الحريات، ونبذ الآخر إلى تدمير صيغ التعايش، وممارسة الإرهاب ومما يحول المجتمعات الإسلامية إلى سجون عقائدية ومعسكرات طائفية ويحول الأفكار والدعوات إلى آلات للهلاك والخراب، والوسائل تدمر الغايات فيفقد فيها المشروع الإسلامي مصداقيته ويحرق الأوراق التي يلعب بها، لكي ينضم إلى ما سبقه من المشاريع القومية والاشتراكية، من حيث العجز والإفلاس والتردي في مواجهة التحديات والمتغيرات، وهي النهاية البائسة التي جعلت أصحاب المشاريع الثلاثة، القومي والإسلامي والماركسي، ينتقلون من حالة العداء الذي كان يتحكم في علاقاتهم، والذي كان ينفجر نزاعات دموية في أحيان كثيرة، لكي ينخرطوا في تحالف أيديولوجي جديد وينتظموا في صف واحد، من حيث مواقفهم العدائية، السلبية أو الرجعية، العقيمة أو الهشة، من مجريات العالم وتحولات المشهد الكوني، ضد ما يعتبرونه الاستعمار أو الاستكبار، أو في مواجهة ما يسمونه الغربنة والأمركة، فضلا عن العولمة. والحصيلة، هي المزيد من العجز والتردي، على سبيل الهزال الوجودي والفقر المعرفي أو العمى الإيديولوجي والتخلف الحضاري.
مضيفا، أن الشعارات الحديثة المتعلقة بالنهضة والتقدم والتنمية أو بالعقلانية والاستنارة والديمقراطية، كما يجري تكرارها ولوكها منذ عقود، قد جرى تدميرها على يد دعاتها، بعد أن تحولت إلى شعارات جوفاء أو إلى مقولات خاوية تشل طاقة الفكر بقدر ما تحجب حركة الواقع. فالعلمانية أظهرت هشاشتها إزاء الأصولية الدينية التي تسيطر على الشرائح الواسعة، والاستنارة العقلانية أثبتت قصورها في مواجهة مظاهر الفوضى واللامعقول، والمواطنة منعت بلورتها العصبيات القبليات والفاشيات الطائفية، والحريات الديمقراطية آلت إلى المزيد من القهر والاستبداد، والتنمية أخفقت في مقاومة عوامل الفقر والتخلف، والدعوة الإنسانية تكذبها البربرية المعاصرة المفاجئة والفاضحة.
ومن الطرف ذاته، يشير إلى أن الإخفاق عربيا، يتغذى من الأزمة العالمية، كما تتجسم في استهلاك الشعارات على أرضها بالذات، ذلك أن الحداثة التقليدية، في المجتمعات الغربية نفسها، تعاني منذ زمن أزمة بنيوية تطاول الأسس والثوابت. والديمقراطية كما هي نماذجها لم تعد حلا أو ترياقا، بل أمست عجزا، ورأي أن أزمة العلمانية والمواطنية والديمقراطية ليست هامشية أو عرضية أو خارجية، أي أنها لا تنبع من نقائضها وأضداها وإنما هي أزمة بنيوية وذاتية تطاول مفاهيمها التي تنتج نقائضها وتول مآزقها، بقدر ما تدمر الفكرة وتؤول إلى انهيار المشروع من أساسه. أما أزمة العقلانية فهي ليست في مصادرة حرية التفكير من جانب السلطات والمؤسسات، وإنما تكمن في التعامل اللاهوتي مع العقل، وبقدر ما تكمن في ادعاءات القبض والتملك والتحكم من جانب العلم ومؤسساته وإنها - أي العقلانية العلمانية - التي يتم التباهي بها، لم تفتح أمام البشر «دروبا آمنة» لكي يسلكوها، بل باتت مضادة للأمن بمنتجاتها وأدواتها.
هكذا يتوصل إلى الخلاصة، بأن معالجة الأزمات لا تجدي بما هو مسبق أو محقق أو سائد وجاهز من الصيغ والنماذج أو الأنظمة والقواعد، ولا حلول باستكمال ما لم يستكمل بعد، إذ لا شيء يستكمل في عالم الإنسان الذي هو عالم الصيرورة والتحول، فأزمة مشروع التنوير ليست في كونه لم يستكمل بعد، أي ليست في الوسائل والآليات، بل في الدعوة نفسها، أي في دعوى استكماله، إذ هو لا يستكمل، بل يبقى دوما قيد الإنجاز والتحقق. وهذا شأن الحداثة، التي تولد مشكلاتها وتفقد فاعليتها، بقدر ما تدعي استكمال أدواتها أو إنجاز مهماتها. الأجدى كما يشير، هو التمرس بسياسة فكرية جديدة تتعامل مع المعالجات والحلول بصفتها تخييلات خلاقة وتراكيب جديدة، والتركيب يعني أن ما هو جديد، مفيد وملائم أو فعال وراهن، إنما ينبثق كعملية إعادة بناء أو تشكيل، على سبيل الجمع والدمج أو الربط والتوليف أو التهجين والتطعيم أو إعادة التوظيف والتشغيل. فلا شيء يلغي سواه، عند من يفكر بعقل تركيبي تداولي، ينفتح على الواقع بتعدد وجوهه وطبقاته أو مستوياته ومجالاته أو مساراته وسرعاته أو أقطابه وخطوطه.
السؤال: هل مفاتيح «علي حرب» وعدته المقترحة، كافية ووافية وناجزة لعملية التغيير وإعادة الإنتاج؟
قبل الإجابة! لما لا نجرب اكتشاف ذلك عبر قراءة أطروحاته بأداة التفكيك التي ربما نتبين منها دربا للممكن تحقيقه ونتلمس حقيقة التداولية الوسطية ومدى إمكاناتها، متجنبين بالطبع، الانزلاق في عملية التنظير الجامدة، وبحذر من التماهي مع الملقى علينا لمجرد كونه رجع صدى لتوجسنا وقلقنا من الآخر المختلف، أو الانسياق خلف أصواتنا المخنوقة أو تذمرنا ويأسنا من الواقع وأزماته. ما نحتاج إليه، هو قراءة نقدية لما يقدمه لنا المفكر الجريء والمتجدد!
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 1627 - الأحد 18 فبراير 2007م الموافق 30 محرم 1428هـ