في أحد أيام السنة الفائتة استحق أن يوصف بالإثنين الأسود كان ذلك الثامن عشر من شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام 2006 استيقظنا على خبر وفاة والدنا المناضل الشيخ الجمري، بعد أن أعياه المرض طوال الخمس السنوات الفائتة وبعد خروجه من السجن، كان الخبر مزعجا مؤلما وكان يوم نحس، كل مظاهر ذلك اليوم توحي بنحوسته فقد كان الجو على غير عادته قارص جدا، اللهم إلا أنه سبق يوم وفاته أسبوعا غير عادي من الأمطار الغزيزة التي لم تشهدها البحرين طوال السنوات السابقة فكل تلك الأمطار كانت تهيئ التربة لاستقبال المجاهد الكبير الشيخ الجمري رحمة الله عليه فكأنما الأرض خجلة من استقباله وهي جرداء قاحلة فأبت إلا أن تدعو ربها فاستجاب لها وكان مطرا كثيفا إلا ليلة تشيعه فقد توقف لتسهيل ترتيبات دفنه، ومع ذلك كانت هناك جماهير غفيرة قد خرجت زحفا من كل مناطق البحرين لتوديعه إلى مثواه الأخير، لم يكن البرد ذا بال بالنسبة لهؤلاء ولا طول المسافة فقد كان الموقف جزءا من رد الجميل لأبي جميل الذي لم يبخل بأي جميل لأي أحد من أبنائه فكيف لهم أن يجحدوا معه؟.
كان مشهدا صعبا جدا فكيف لنا أن ندفنه ونتركه تحت الأرض ونرجع بدونه بعد أن حملناه طول المسافة، فنحن على بركته نعيش وعلى إيقاع أنفاسه نشعر بالبركة وأن كان لا يستطيع التواصل معنا، بكل أسف استقبلنا العام الجديد ونحن مفلسون لكوننا فقدنا أبا حنونا يحن علينا، فقدنا رجلا ليس كمثله أحد، فقدنا قائدا لا يمكن تكراره، وليس له مثيل، فقدنا أحد رموز الفكر الإسلامي والسياسي، فقدت المنابر الحسينية أحد أبرز خطبائها وفقد الأدب أحد رواده، شعرنا باليتم حينما فقدناه ففقده لا يعوض، شعرنا بالضياع حينما مات لأنه هو من حمل على عاتقه بوصلة الإصلاح السياسي حتى الانفراجة الأمنية، كان نعم الربان فقد أستطاع بكل ما يمتاز به من صفات قيادية وأخرى أخلاقية وإسلامية أن يعبر بنا من ضفة إلى ضفة على رغم ظروف المرحلة القاسية وإرهاصاتها وتداعياته التي لا تزال وتفضيل ابتعاد البعض عنها، فقد قدم الكثير الكثير من التضحيات من أجل تعزيز الوضع السياسي في البحرين، مقدما كل التضحيات ومتحملا كل التبعات فقد كان درعا لمن لا درع له، والمقابل أن خسر فيه أمنه وصحته وأخيرا حياته.
ذهب عنا سريعا دون أن نودعه فكيف لنا أن نودعه وقد أخذ السجن من عمره ومن صحته كما لو أن السجن قد أورثه مرضا لا يمكن الفكاك منه استطاع أن يضربه في خاصرته، فقد بعده عن الناس الذين أحبوه وأحبهم، وعندما خرج مجددا لهم أبعده عنهم المرض مرضة تلو الأخرى وعلى مدى خمس سنون عانى فيها ما عانى، نتألم كثيرا حينما نتذكر معاناته المرضية ليتنا كنا نستطيع تقاسم الأمراض معه، لما تركنا لجسمه النحيل شيء منها، ونشعر بالغصة حينما نتذكر بأننا شيعناه ولن نراه، فإلى جنان الخلد يا أبا جميل، ولكن نشعر بتحسن كلما تذكرنا بأننا ودعناه في يوم الشهداء مع أبنائه، وكأنما يريد أن يرسل رسالة لأحبائه الذين حتما لن ينسوه بأنه على الدرب سائرون وفضل الرحيل معهم لا قبلهم أو بعدهم، وحتى نتذكر الجمري كلما تذكرنا سيرة شهدائنا الأبرار، فضل الرحيل بعد أن تحقق ما تحقق من مطالب كان يسعى لتحقيقها وقال فيها رأيه بكل صراحة فقد قالها «ليس هذا البرلمان الذي نطالب به.
في الأربعين من وفاته صادفت اليوم السابع من شهر محرم الحرام، نتذكر حينها شهادة أبا الفضل العباس ودروس الإيثار وتضحياته، وحياة الجمري التي ما تفتأ توصف بالإيثار ثم الإيثار فقد آثر حياة الأمن والأمان والاستقرار واختار طريق ذات الشوك متخليا عن وظيفته في القضاء، قاسى ما قاسى من محن وابتلاءات لا لشيء سوى لكونه يتعامل مع كل البحرينيين كأبنائه تماما، فقد رفض خروج أبنه وزوج ابنته من السجن مقابل السكوت عن المطالب الشعبية، وبدأت حينها مسلسلات المضايقات التي لا تهدأ فهل هناك إيثار أكبر من هذا الإيثار فقد أكرمه الله تعالى بأن يكون ذكرى الأربعين من وفاته هو يوم السابع من شهر محرم الحرام لنتذكر الجراح من جديد سنويا فعندما نبكي العباس نتذكر الجمري في التضحيات وعندما نتذكر الشهداء لنتذكر أبو الشهداء.
شخصيا فقدت والدي منذ ما يربو على 28 عاما ولكن لم أشعر حينها باليتم فقد كنت حينها صغيرة لم أبلغ الـ 7 سنوات ولكن شعرت بهذه الحالة عندما مات والدنا الجمري وكم هو صعب أن يشعر المرء باليتم وهو كبير، وبفقدنا الجمري فقد تيتمنا جميعا صغارا وشبابا وشيوخا فقد كان الأب الذي يحنو علينا جميعا.
كل ما يكتب عن الجمري استمتع بقراءته من ألفه حتى يائه وبرغم الكتابات الغزيرة التي كتبت عنه إلا أنه لايزال هناك الكثير من الجوانب التي لم تعط حقها في الكتابة، كيف لا ونحن نتحدث عن شخصية كبيرة متعددة الجوانب والتميز صاحب رؤية ونظرة ثاقبة إلى المستقبل عندما قرأت ورقته التي قدمها في أحد المحاضرات في جامع جدحفص والتي تحدث فيها عن الضمان الاجتماعي قبل 33 سنة والآن فقط لتوه المشروع يرى بصيص النور قلت في نفسي سبحان الله فقد كان يتلمس حاجات الناس عن قرب ويمتلك تفكير متقدم نتحسر أكثر لفقده، كما عندما وجدت أحد مشروعاته التي عطلت والتي تحمل أهدافا تعالج المنبر الحسيني تحت عنوان ندوة الخطباء أيضا شعرت بالفخر لكونه يتحسس مواضع الخلل حتى وأن لم يكتب لها النور، فقد باتت من الأولويات حتى وقتنا الحاضر، أن تقييم تجربة المنبر الحسيني والمسائل العشوائية ربما وجدنا هذا العام مؤتمرا للتوعية تعالج هذا البعد.
رجل بهذا الحجم من العطاء والتضحيات ألا يحق لنا أن نحزن كثيرا على فقده ونشعر بالحسرة على حالنا لخسارتنا اياه؟ ويحق للبعض أن يحرمنا منه ومن فكره النير، وإبداعاته المتعددة، القاضي الذي أصدر في حقه حكم قضائي تعسفي بأن يبقى في السجن عشر سنوات وان يدفع غرامة مالية مقدارها 15 مليون دينار وفي حال عدم دفعها يعوضها بسنوات سجن إضافية!! هل أدرك أنه لو طبق الحكم عليه لكان فقط أستطاع أن يقضي نصف المدة وهي خمس سنوات نتكلم عن وضعه وهو خارج السجن فما بالكم لو أنه تم داخل السجن ؟
لا ندري أصلا ما الذي تسبب في تعلل الوضع الصحي له بعد خروجه من السجن مباشرة وسبب الإفراج عنه أصلا.
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 1618 - الجمعة 09 فبراير 2007م الموافق 21 محرم 1428هـ