حين يكون البحر هائجا تتوه الكثير من السفن في أعالي البحار، فإذا صادف أن اتصلت البحار بالأمطار، وكان الوقت شتاء فازداد سقوط الأمطار، تصبح البلدان المحاذية لهذه الشواطئ على شفير الانهيار تهددها الفيضانات والسيول الجارفة، وفي مثل هذه الأحوال فإن على الجميع أن يعيش في حال استنفار، وتكاتف بعيدا عن التصيد وتصفية الحسابات القديمة، وهنا تذوب الفوارق الاجتماعية والسياسية والدينية والمذهبية، ويصبح أي تمسك بها نوعا من الهوس الذي قد يصل إلى حد الجنون الممقوت من الجميع.
وطبعا فإن السفن المبتلاة بالأمواج العاتية تسلم انقيادها التام إلى الربان الذي يكون عليه اتخاذ أصعب القرارات في أحلك لحظات حياته وأشدها قتامة وتوترا، وهنا فإن على الجميع أن يمتثل أوامر هذا الربان وينفذها من دون نقاش، خصوصا إذا كان هذا الربان من أولئك الذين يتصفون بالحنكة والخبرة والدراية، وعلى الربان ألا يفكر في نفسه أو الكرسي الذي يجلس عليه، بل إنها في مثل هذه الأوقات العصيبة، يقدم على تضحيات عظيمة وتنازلات كبيرة ربما تطال وقاره ومكانته الاجتماعية، التي لا يقبل بالتنازل عنها في الأوضاع الاعتيادية.
أما فيما يخص الفيضانات والسيول التي تتعرض لها البلدان والمجتمعات التي تعيش على ضفاف الأنهار وشواطئ البحار، فإن من يتولى المسئولية فيها، لا يقل وضعه حرجا أو حساسية من ربان تلك السفينة الواقعة في وسط الموج الهائج، وهنا نجد أن سلوك أصحاب القرار في هذه المواقع، قد تكون أكثر حسما وخطورة من قرارات ربان السفينة المهددة بأن يبتلعها البحر، ذلك أن الموجودين على ظهر السفينة، قد يكونون مجبرين على التعاون وليس لديهم أي ملجأ غيره، إضافة إلى أن أحدا منهم لا يستطيع أن ينزوي في ركن من السفينة فيضمن النجاة.
أما على اليابسة فإن الأمر قد يختلف، إذ إن البعض قد يتصور أنه يمتلك حصنا يمكن أن يقيه من الفيضانات والسيول، أو قد يفكر في أن هذه الفيضانات ستجف بعد أيام قليلة، وتمر الأزمة عليه بسلام، وعندها قد تكون فرصته في التقاط الغنائم أكبر، وقد يذهب أبعد من ذلك في هذا التصرف، فيبدأ بالتفكير في حماية عائلته الصغيرة أو قبيلته أو طائفته، ويترك الآخرين لملاقاة مصيرهم بأنفسهم، ولسان حاله يقول (الله يفكنا منهم).
لكن المتيقن هو أن هذه التصرفات غير المسئولة، لا يمكن أن تصدر عن شخصيات سليمة عقليا ونفسيا، ناهيك عن أنها لا يمكن أن تصدر عن شخصيات تتمتع بحس المسئولية، فكيف بها إذا كانت صاحبة قرار، ومسئولة عن مصائر البلاد والعباد؟!.
إن من الطبيعي أن تعيش الشخصيات القيادية في مثل هذه البلدان التي تتعرض للكوارث حالة استنفار كاملة، ومن الطبيعي أن تعيش البلاد كلها حال طوارئ، وان تعطل جميع الامتيازات الاجتماعية والفوارق الطبقية أو الطائفية، وأن يتوجه الجميع من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من العباد والبلاد، لكن المسئولية الأكبر تقع على قيادات هذه البلدان، بما في ذلك القيام بالاتصالات الضرورية لطلب المساعدة من الدول الشقيقة والصديقة وأية جهة تستطيع أن تمد يد العون.
إلا أن قيادات هذه البلدان لا تستنكف من الاتصال بالشخصيات المرموقة في مجتمعاتها حتى لو كانت من الجهات المعارضة لها، وهي تتوقع في مثل هذه الحالات أن تبادر الأخيرة إلى الانخراط في أعمال الإغاثة والتشجيع على التعاون حتى من دون أن توجه لها دعوات رسمية بذلك.
وأحسب أن الأوضاع التي تعيشها بلادنا هذه الأيام، شبيهة إلى حد بعيد بمثل هذه الأوضاع، فها نحن أمام مرحلة مفصلية حرجة، تهدد البلاد بفتنة طائفية كبيرة، قد يعرف البعض بدايتها، لكن أحدا لا يعرف نهايتها أبدا، والغريب أن هناك من يتعمد إشعالها وتذكية أوارها حتى ليخيل لك وأنت تتابع تصرفاته وكتاباته وتنظيراته، بأنه ليس من أهل هذه البلاد، وانه يتمنى لها الخراب في أسرع وقت، وعندها تتوقع أن تراه قد حزم أمتعته وغادر إلى أقرب مكان آمن يستطيع اللجوء إليه.
إن هذا البعض الذي ما انفك يثير الخلافات ويستنهض الفتنة من مراقدها، من خلال إسقاطاته التاريخية ذات الرائحة العفنة، وعن طريق التوغل في مستنقعات الوحل المذهبي المبتلاة به بعض البلدان المجاورة، والتي جثم على صدرها الاحتلال البغبض، فراح يضرب أهلها بعضهم بعضا، أو تلك البلاد التي خطط لتدميرها أعداء الأمة وأذنابهم من العملاء والمستنفعين فشكلوا بها عصابات ومجموعات إرهابية تقتل على الهوية وتسحق على الانتماء المذهبي، هذا البعض إنما يعبر عن نفوس مريضة وموتورة آن الأوان لمحاصرتها ومنعها من بث سمومها الفتاكة في المجتمع.
وهنا تبدو المسئوليات في أشد حالات الوضوح، وتكون القرارات في أكثر حالاتها إلحاحا، إذا لا يحتمل الأمر أي تأخير، بل إن السرعة في اتخاذ القرارات المنقذة للأمة من الانزلاق في مسارات هذا التيه، وحبائل الحقد والجنون يصبح مسئولية قصوى، ليس على صاحب القرار فحسب، بل وعلى كل الشخصيات المجتمعية والفعاليات العامة من مختلف المشارب والمنابت والانتماءات.
إن من غير اللائق أن يترك الحبل على الغارب، فيسمح لعدد من الكتاب والصحافيين بتقسيم البلاد بين الأكثرية والأقلية، ثم تستحضر كل خلافات الدنيا العرقية والمذهبية والعقائدية، لتضفي على هذا التقسيم صفة القداسة، حتى يتحول إلى حرب ضروس بين أكثرية الإسلام وأقليته، وبلغة أكثر وضوحا بين الشيعة والسنة.
إنه خزي ما بعده خزي، وانقلاب في المفاهيم وضرب لكل أواصر المحبة والتآخي التي زرعها رسول الإنسانية محمد بن عبدالله (ص) بين أبناء الأمة الإسلامية، فألغى الفوارق والمفاضلات حين قال: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى» فما بالك حين تكون الأمور بين أهل بلاد واحدة!.
وهنا نطرح تساؤلا مهما على هؤلاء الكتاب والصحافيين الذين لا يطلون برأسهم إلا من أجل إشعال نار الفتنة، ماذا تريدون؟... هل نفهم من كلامكم أنكم تدعون إلى تطهير البلاد عرقيا وطائفيا وسياسيا؟ حتى تكون خالصة لوجه الله إلا من السلفيين والأخوان؟، ثم إننا نريد منكم أن تخبروننا... هل تمتلكون تفويضا إلهيا مقدسا تدخلون من خلاله من تشاءون إلى حضيرة الإيمان وتخرجون من لا تحبونه منها، وتتوعدونه بأن ينكب على وجهه في نار جهنم خالدا فيها أبدا؟
كما أننا نريد من الإخوة قيادات التيار السلفي وتيار الإخوان أن يوضحوا مواقفهم من هذه الدعوات المشبوهة، وهل هم يقبلون أن يتحدث هؤلاء الموتورون بأسمائهم، فيقدمون وصفات وحلولا تفيض بالحقد الطائفي، ويطالبون بتمزيق الأمة وتقديم لحوم أبنائها شرائح مشوية على موائد الطائفيين الجدد.
لقد آن الأوان لأن تتخذ القيادة السياسية في هذه البلاد موقفا واضحا من هذه الأقلام التي تنفث سمومها القاتلة فوق صدر الصحف اليومية، وأن توقفهم عن غيهم، وأن تحاسبهم على ما يقترفونه من جرائم بحق الشعب والوطن، ولست هنا أفرق بين من يهاجم الطائفة الشيعية أو من يهاجم الطائفة السنية من دون وجه حق، فكلاهما يستحق المساءلة، وكلاهما يجب أن يقدم إلى القضاء.
ومن دون شك فإن هذا الأمر ينطبق على جميع التيارات السياسية والفكرية المنتشرة في البحرين، فهي جميعا مطالبة بالتصدي لحملة الأقلام المسمومة، وإعلان البراءة منهم بل ومقارعتهم ومقاومتهم حتى لا يتمكنون من خرق سفينتنا البحرين، فيدخل علينا الطوفان من كل جانب ومكان، ومن دون شك فإن نجاحنا في إيقاف هؤلاء سيساهم في وقف نزيف الأمة ومعاناتها، وبالتالي العمل على إنقاذها قبل فوات الأوان.
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1615 - الثلثاء 06 فبراير 2007م الموافق 18 محرم 1428هـ