في الأسبوع المقبل، يحل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ضيفا على المنطقة، في واحدة من زياراته المهمة، صحيح أنه سبق له زيارة مصر وسورية، ولكننا نعتقد هذه المرة، وخلال عامه السابع في حكم روسيا العتيدة، يطرق باب المملكة العربية السعودية كأول رئيس روسي، أو حتى سوفياتي يزور المملكة على مدى نحو ثمانين عاما، الأمر الذي يشكل مؤشرا نوعيا جديدا.
زيارة بوتين هذه المرة تأخذه إلى السعودية وقطر والأردن «11 - 13 فبراير/ شباط»، غير أن تركيز السياسة الروسية في عهد هذا الرجل، يبدو واضحا على ثلاثة أضلاع رئيسية في الوطن العربي، هي مصر وسورية والسعودية، ما يعكس توجها مناقضا لما كان قد ساد في عهد سابقيه غورباتشوف ثم يلتسين، اللذين وضعا نهاية عملية للاتحاد السوفياتي، القوة العظمى التي كانت تناوئ الولايات المتحدة الأميركية.
في هدوء شديد وبسياسة ذكية أعاد بوتين خلال أعوامه السبعة في الكرملين، نسج علاقاته الجديدة بمنطقة الشرق الأوسط، لم يجاهر بمعاداة أو حتى منافسة أميركا في منطقة نفوذها، كما كان يفعل قادة الاتحاد السوفياتي التاريخيون، ولم يتناقض مع «إسرائيل» لأسباب عدة، أهمها النفوذ اليهودي المتصاعد داخل بلاه، ثم مراعاة العلاقات الاستراتيجية بين «إسرائيل» وأميركا.
لكن الرجل كخبير مخابرات داهية، مارس سياسة التسلل الهادئ إلى الفناء الرئيسي للنفوذ الأميركي، وأعاد بالتالي علاقاته المميزة مع مصر بعد طول فتور، مثلما دعم علاقاته الاستراتيجية مع سورية، وها هو اليوم يقصد مباشرة السعودية ذات الثقل المتنامي في المنطقة، وفي العلاقات الدولية، بحكم ثرائها النفطي الهائل، ربما المماثل لثراء بلاده من النفط والغاز.
بالمقابل، استقبلت موسكو من قبل الرئيس حسني مبارك، والرئيس بشار الأسد والملك عبدالله حين كان وليا للعهد العام 2003، بعد إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين العام 1990، والسؤال الذي يطرح نفسه في ظل هذه الحركات والاتصالات المتبادلة، هو: ماذا يريد بوتين وروسيا من توثيق العلاقات مع القواعد العربية الثلاث، وماذا تستفيد هذه الدول العربية من إعادة مدّ خطوطها السياسية والاقتصادية مع روسيا؟
نظن أن السياسة البوتينية حاولت وتحاول إعادة تنظيم وترتيب علاقاتها الدولية، في وجه الهيمنة الأميركية الطاغية، التي تمكنت منذ تفكيك الاتحاد السوفياتي وإسقاطه مع نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات، من أن تنفرد بقيادة العالم، بعد أن تصورت أن روسيا بعد الاتحاد السوفياتي، في طريقها هي الأخرى للانهيار وربما التلاشي، في ظل الوضع المأسوي الذي خلّفه غورباتشوف ثم يلتسين.
وعلى رغم كل جهود التقارب أو التفاهم الأميركي الروسي طوال العقدين الأخيرين، فإن مجيء بوتين إلى الكرملين، قد أعاد الحلم الروسي التاريخي كدولة عظمى، وفوق هذا الحلم بنى بوتين خططه واستراتيجياته، بما يعدّ درسا تاريخيا لكل زعيم بل لكل دولة وأمّة، فأعاد تنظيم البيت الداخلي، ثم انطلق لتحسين وتوطيد علاقاته مع المناطق الاستراتيجية في العالم، من الهند والصين شرقا إلى أميركا الجنوبية غربا، مرورا بالشرق الأوسط وإفريقيا، وإن ظلت خلافاته الصغيرة مع بعض دول أوروبا الشرقية قائمة، بحكم وصول النفوذ الغربي والأميركي خصوصا إلى عمقها، بما يهدد مجاله الحيوي التقليدي!
ولعل صناع السياسات في الدول العربية الثلاث، مصر وسورية والسعودية، التي تحتل الآن مكان الاهتمام الروسي، يعيدون قراءة الاستراتيجية الجديدة للرئيس بوتين، حتى يمكن الاستفادة منها، في معادلة الهيمنة الأميركية المطلقة على المنطقة، وبالتالي يعيدون توازن الأوضاع المختلة عبر الأزمات والحروب المشتعلة، في فلسطين والعراق والسودان والصومال ولبنان، وصولا إلى معركة المواجهة الأميركية الإيرانية بشأن البرامج النووية، التي باتت تهددنا أيضا.
ومن الواضح أننا أمام تجربة هائلة في هذا المجال، مجال التوازن الدولي، تقدمها لنا الهند، فعلى رغم أنها اندفعت خلال السنوات الأخيرة في إقامة علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية بل ونووية هائلة مع أميركا، فإنها لم تفعل ذلك على حساب علاقاتها القديمة مع روسيا الجديدة، التي ذهبت بالمقابل إلى باكستان، بل بالعكس فقد كسر بوتين جمود العلاقات مع الهند، وزارها العام 2000 ليفتح الباب واسعا أمام تعاون ثنائي استراتيجي، وصل إلى تقديم الخبرة والمعونة الروسية لبرامج التسليح العسكري الهندي الطموح.
ولنا أن نعرف أنه في هذه السنوات القليلة، ساعدت روسيا الهند في تطوير صناعاتها الحربية، بما في ذلك المشاركة في إنتاج وتطوير الصواريخ، وخصوصا الصاروخ الهندي «براهموس» الأسرع من الصوت، وكذلك في أبحاث الفضاء، وفي الإنتاج المشترك للجيل الخامس من الطائرات المقاتلة المتقدمة للغاية، وهي صناعات تركز عليها الهند، ليس فقط لمواجهة جارتها وغريمتها باكستان، ولكن أساسا لتصعد إلى مقدمة طابور الدول الكبرى في العالم.
وبحكم استقلال القرار السياسي في الهند، وحرص قادتها على حماية سيادتها الوطنية لبناء مركزها الدولي المتميز، فإنهم لم يقايضوا علاقاتهم مع روسيا بعلاقاتهم مع أميركا، بل نجحوا في السير الواثق الثابت على الخطين المتوازيين «وربما المتعاكسين» بقدرة سياسية هائلة وتوازن دقيق، يقوم على تبادل المصالح، وليس على التضحية بواحد لكسب الآخر، أو الارتماء في حضن أميركا ضد روسيا أو العكس!
ولم يكن ذلك ممكنا لولا تفهم بوتين لطبيعة وقواعد تبادل المصالح وإعادة بناء العلاقات، ليس على أساس العواطف والايديولوجيات الزاعقة، كما كان الحال أيام الاتحاد السوفياتي، وإنما على أساس النظرة الواقعية لمتغيرات موازين القوى الدولية، وهو لم يفعل ذلك مع الهند وحدها، لكنه ذهب إلى عقر دار الصين، الخصم التقليدي للاتحاد السوفياتي السابق أيام الخلافات الشيوعية، فإذا بموازين التجارة بين البلدين ترتفع خلال السنوات الخمس الأخيرة وتتجاوز 36 مليار دولار، بزيادة تصل إلى 30 في المئة.
وإذا بالتعاون الصيني الروسي حتى في المجالات العسكرية ينمو هو الآخر، في إطار التعاون المشترك، ما يدعم القدرات العسكرية الصينية بدرجة مذهلة، وصولا إلى الإنجاز الهائل الذي حققته بكين قبل أسابيع بإطلاقها أول صاروخ مضاد للأقمار الاصطناعية السابحة في الفضاء، الأمر الذي رأت فيه الولايات المتحدة الأميركية تهديدا جديدا، وإخلالا خطيرا بالتوازنات والقدرات العسكرية والاستراتيجية الدولية!
فماذا يعني ذلك بالنسبة إلينا، وماذا يمكن أن نستفيد منه؟!
بداية، فقد تحررت السياسات العربية، الثورية منها والمحافظة، من عقدة الهاجس الايديولوجي، أي الخطر الشيوعي القادم من موسكو، لم تعد في روسيا شيوعية حاكمة تمثل خطرا على أحد، باعتراف أميركا وأوروبا، وبالتالي فإن إقامة جسور قوية بين روسيا الجديدة والدول العربية عموما، ومصر وسورية والسعودية خصوصا، أصبحت الآن ضرورة من ضرورات العلاقات المتوازنة، وطريقا لتعديل الخلل الذي أصابنا من جراء الهيمنة الأميركية المنفردة بالسياسة والاقتصاد والمواقع الاستراتيجية في بلادنا.
وقياسا على المواقف الروسية المعلنة، في ظل حكم بوتين، فإننا نستشف أن موسكو مازالت تؤيد معظم قضايانا الرئيسية، وتلعب دورا إيجابيا في أزماننا الملتهبة، فعلى رغم النفوذ اليهودي الواضح في روسيا مثلا، فإن السياسة الرسمية تؤيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وانظر إلى تصريحات وزير الخارجية سيرغي لافروف قبل أربعة أيام، التي طالب فيها برفع الحصار عن فلسطين، وبتنشيط عمل اللجنة الرباعية المشكّلة لحل الصراع العربي الإسرائيلي، مستندا إلى القرارات الدولية، وبإشراك الدول العربية في هذه اللجنة، لإعطائها مزيدا من الفاعلية والتعبير الحقيقي عن المواقف العربية.
وانظر إلى موقف روسيا المساند لسورية الواقعة تحت ضغوط أميركية وأوروبية، بل وعربية واضحة، لتطويع مواقفها، بل إن الموقف الروسي من المسألة النووية الإيرانية يظل موقفا واضحا وخصوصا في معارضته لاستخدام القوة العسكرية لوقف البرنامج النووي الإيراني، الذي قام وتقدم بفضل المساعدة العلمية والتكنولوجية الروسية.
والخلاصة أن «الغريق يتعلق بقشة»، ونحن غرقى في أتون حروب دامية وأزمات حادة، وغرقى في بحور الهيمنة الأميركية الأوروبية، وغرقى في تخلف علمي ومعلوماتي وتكنولوجي، وغرقى في فقر متزايد واستنزاف رهيب للثروات، وغرقى في دماء الإخوة المتقاتلين هنا وهناك، وغرقى في مياه عولمة كان البعض يظنها إنقاذا، فإذا بها تدفعنا إلى الوراء، ربما لأننا لم نفهمها ولم نستوعب أساليب الاستفادة منها، وربما لأن القوة القاهرة الطاغية فرضتها علينا، وفق شروطها ومصالحها هي وحدها!
ولا ندعي أن روسيا هي المنقذ المنزل من السماء، أو الصديق الوفي المطهر من المصالح والمطامح والأطماع، فهي في النهاية كانت إمبراطورية عبر التاريخ، ومازالت دولة كبرى تسعى لاستعادة نفوذها الدولي وأمجادها الغاربة... لكننا ندعي أننا نستطيع بقليل من الفهم والإدراك وكثير من الجهد والعمل، الاستفادة من السياسات الروسية الحالية، ونستطيع التعامل العلني بمنطق المصالح المشتركة، وكم هي كثيرة ومتنوعة.
نعلم أن بعض كهنة السياسة في بلادنا، وخصوصا من جماعة المتأمركين العرب، سيردون، بأن أميركا حليفتنا وحاميتنا، لن تقبل عودة النفوذ الروسي إلى المنطقة، فهما متناقضان... كانا ومازالا كذلك، فلماذا نقع نحن في بؤرة التناقض من جديد؟!
غير أننا نعود فنقدم لهم نموذج الذكاء الهندي، الذي تحدثنا عنه من قبل، ثم نقول لمن لا يعرف، إن الهند وقعت خلال السنوات القليلة الماضية، أهم اتفاقين استراتيجيين في تاريخها، واحد مع روسيا والثاني مع أميركا، من دون أن تقع في أي تناقض، ومن دون أن تغضب أميركا أو روسيا... هذه سياسة ذات عقل وعلم ومصالح، تضع المسئولية الوطنية فوق كل اعتبار!
خير الكلام:
قال عمر بن عبدالعزيز: تعلموا العلم فإنه زين للغني وعون للفقير.
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1615 - الثلثاء 06 فبراير 2007م الموافق 18 محرم 1428هـ