من يظن أن سلوك البشر مرن مرونة لا تحدّ فهو واهم، وعادة ما يقوم هذا الوهم على اعتقاد أيديولوجي راسخ بالوعود الكبرى التي تبشّر بها تكنولوجيات التحكم الاجتماعي والسياسي وخصوصا فيما يتعلق بقدرتها على تخليق بشر بالتفصيل وبمواصفات محددة. فإذا كان لهذه التكنولوجيات قدرة فائقة على تشكيل سلوك البشر وطبائعهم في أي اتجاه مطلوب، فسيكون بالإمكان إذا تخليق بشر بمواصفات محددة، بشر مرنون وقابلون للتفصيل بحسب الطلب. فإذا كنت والدا ورئيس عصابة وتريد طفلا يرث هذه الرئاسة فبإمكانك أن تطلب مواصفات لطفل فظ غليظ القلب وذي بنية جسمية قوية. فكل هذا ممكن!
صار المهتمون بالبرمجة الوراثية والبيوتكنولوجيا يتحدثون عن نوع جديد من الأطفال يسمونه «الطفل التفصيل»، وهو طفل يجري تخليقه بحسب الطلب وبمواصفات محددة، فإذا كان هناك جين مسئول عن كل صفة من صفاتنا (جين للذكاء، وجين للطول، وجين للون، وجين للعدوانية، وجين للحياء، وجين لطلاقة الكلام، وجين للشجاعة والجرأة...) فما المانع من أن نتخيّر من بين «المعروض من الجينات» ما هو أفضل لتخليق طفل بمواصفات محددة؟
والحق أن هذا الخيال انفتح في مجال البيولوجيا والهندسة الوراثية، وذلك في محاولة من البشر للتغلب على التفاوت في توزيع الصفات الطبيعية بين الناس. إلا أن الدافع الحقيقي وراء هذا الخيال الجامع هو الإيمان المفرط بوهم اسمه «جين لكل صفة». وهؤلاء لا يلتفتون إلى حقيقة مهمة وهي أن هذا خيار كارثي بامتياز والقائمون عليه لا يكترثون بالعواقب الخطرة المحتملة لهكذا إجراء، خصوصا إذا كنا نتحدث عن نتائج قد تحدث خلال جيلين أو أكثر. فما أدرانا بما سيحدث لطفل تم تخليقه بالتفصيل وبمواصفات محددة؟ أليس من الممكن أن يحدث انحراف أو خلل جيني ما فنفاجأ بأننا قد خلّقنا بشرا بموصفات غريبة وشاذة، فتكون النتيجة أن يكون لدينا طفل بصحة فائقة وذكاء مرتفع إلا أن له قرونا كقرون التيس، وذيلا كذيل الحمار؟!
واستلم المهندسون الاجتماعيون والسياسيون هذه الإشارة وراحوا يتفننون في تجريب وصفات متنوعة على المجتمعات والشعوب، إلا أنهم قلبوا وهم البيولوجيون المتعصبون «جين لكل صفة» بوهم آخر هو «إجراء أو قانون أو مؤسسة اجتماعية لكل صفة». وهذا وهم عريق في تاريخ البشر، وتم تجريبه على نطاق واسع، وجرى تبعا له إفراط في استخدام أدوات التحكم الاجتماعي من أنظمة ومؤسسات وقوانين بهدف الوصول إلى الغاية ذاتها أي تخليق مجتمع بمواصفات محددة. ويثير مصطلح «التحكم الاجتماعي» خيالات يمينية جامعة لحكومات تعمل المستحيل بهدف تخليق رعايا مرنين وليني العريكة وغير مشاغبين.
ومن المؤسف حقا أن تبتلى أوطاننا بمسئولين ومتنفذين ومستشارين وخبراء ومنظرين من ذوي الأهواء اليمينية الجامحة، بحيث صار لا شغل لهؤلاء إلا وضع الخطط وعمل الاستراتيجيات والبرامج بهدف تغيير التركيبة الديموغرافية وطبائع هذا المجتمع أو ذاك. وإذا ما كان هؤلاء من المتعجلين ممن يتلهفون لرؤية نتائج سريعة لتدخلاتهم اليمينية المريضة، فإنهم لن يستطيعوا الصبر لعقود من أجل انتظار اليوم الموعود لانبثاق «وطن بالتفصيل» يجري تخليقه بحسب الطلب: 50 في المئة من هذه الطائفة، 30 في المئة من تلك الطائفة،20 في المئة من طوائف متنوعة، أو 60 في المئة موالين، 20 في المئة معارضين، 20 في المئة لا مبالين، أو 80 في المئة ينجبون طفل أو طفلين، 20 في المئة يفرّخون بالعشرة والعشرين. وهكذا يجري مزج هذه الأخلاط كلها في مزيج ليس بالضرورة أن يكون متماسكا، المهم أن المخطط الجهنمي لا يكتمل إلا بهكذا خلطة، عذرا تخطيط!
يقال إن الشعب في الديموقراطيات يستطيع تبديل مسئوليه، في حين يستطيع المسئول استبدال الشعب في المجتمعات مطلقة الاستبدادية. أما المجتمعات البين بين (لا هي ديموقراطية حقيقية، ولا هي اسبتداد مطلق كحال بلداننا) فإن بإمكان المسئولين التدخّل لتصنيع شعب بمواصفات مقبولة، طبعا هو عاجز عن تبديل هذا الشعب بالكامل بحكم أننا في ديموقراطية «نص ونص»، وبحكم أن العالم لن يسمح بهكذا عملية تطهير عرقي بغيض يجري أمام الأشهاد، فكل ما يمكنه فعله إذن هو أن يتعامل مع شعبه كمادة خام قابلة للتشكيل كالعجين، وإذا ما كان بينه وبين عجين هذا الشعب نفور ما فبالإمكان أن يدمج هذا العجين بعجين آخر يستورده من أسواق العالم المتنوعة (قطعة من هنا وقطعة من هناك)، ومن ثم تجري عملية العجن الكبرى. وكأي عملية عجن كبرى فإن نتائجه المبهرة قد تستغرق سنوات... عشر أو عشرين أو خمسين، وكل هذا يعتمد على مقدار العجين المستورد، فإذا كانت الكمية كبيرة فإن النتائج ستظهر بعد خمس سنوات، وإذا سارت العملية وفق منطق «حبة حبة» فإن النتائج ربما تظهر بعد عشرين سنة.
أصحاب هذا الخيال اليميني المتطرف خطرون، وتزداد خطورتهم إذا أفسح لهم المجال وصار لأفكارهم المريضة آذان تسمعها، وأناس يهيئون لهم كل الامكانات لمباشرة العمل على الأرض. إلا أن ما ينبغي على هؤلاء أن يعرفوه أنهم واهمون إذا ما تصوروا أنهم اللاعبون الوحيدون في عملية تخليق «وطن بالتفصيل»، وواهمون أكثر إذا ما تصوروا أنهم ممسكون بعملية التخليق وخطواتها المرحلية بإحكام، وهم أكثر وهما حين يتصورون أن النتائج المطلوبة المبهرة ستتحقق لا محالة، وأن هذه «الوطن - التفصيل» سيتخلق كما يريدون وكما خطّطوا له بخيالهم اليميني الجامح وضيّق الأفق. لقد تناسى هؤلاء المخططون والمهندسون السياسيون الأغبياء أن لكل نظام فجوات تسمح أولا باختراقه من قبل لاعبين خارجيين أو داخليين، وتسمح ثانيا بإعادة توجيه مخرجات النظام في اتجاهات مختلفة وغير مقصودة، وبهذا المعنى فهؤلاء مغامرون أو مقامرون، وربما كانت لمغامرتهم الكبرى هذه عواقب كارثية على الجميع. ومثال الطفل التفصيل ذي الذكاء الباهر والقرون التي تشبه قرون التيس والذيل الذي يشبه ذيل الحمار مثال جيد هنا، فلربما كانت حصيلة هذا التخطيط الجهنمي وطنا بالتفصيل إلا أنه وطن على غرار هذا الطفل الأخير!
وأخيرا فإن هؤلاء يعتَدُون بخططهم الشيطانية هذه على واحد من أهم حقوق الإنسان الأساسية، وهو حق الإنسان في أن يكون له «مستقبل مفتوح» لا تقرره له لا جيناته الوراثية ولا تدخّلات حكامه اليمينية المتطرفة.
وللقراء الأعزاء أقول: إن هذا سيكون المقال الأخير لأتوقف بعدها قليلا، على أن أعود للكتابة بعد بضعة أسابيع.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1614 - الإثنين 05 فبراير 2007م الموافق 17 محرم 1428هـ