يمثّل التعارض السني/ الشيعي في الموقف من الإصلاح السياسي عقبة كبيرة في سبيل تحقيق الإصلاح وتحقيق المصالحة الوطنية.
والحق أن هذا تعارض حاد، وافتراق عميق في تفسير «الإصلاح السياسي»، وأتصور أنه لا سبيل إلى تجاوز هذا إلا بأمرين: الأول يأتي من خلال تحرّك نخبة الوطنيين السنة والشيعة لكسر المطابقة القائمة وفك الارتباط الحاصل بين الطائفة والموقف السياسي. وعادة ما يكون لهذا التحرك تأثير كبير في اللحظات الانتقالية. ولنا في هذا سابقة تاريخية إلا أن سوء الحظ القَدَري هو الذي ساقها إلى الإخفاق، ولو تمت لربما كانت الحال غير الحال اليوم، وهذه السابقة هي تأسيس «المؤتمر الوطني البحراني» في العام 1923. وعلى رغم أن كل الأشخاص الذين تم اختيارهم لعضوية المؤتمر كانوا من السنة، فإن محمد الرميحي يذكر معلومة مهمة في هذا الشأن وهي أن رجلي المؤتمر البارزين عبدالوهاب الزياني وأحمد بن لاحج حاولا كسب تأييد زعيم شيعي مهم آنذاك وهو الحاج عبدعلي بن منصور بن رجب، إذ وجّه الزياني رسالة إلى عبدعلي بن رجب يدعوه فيها إلى الاجتماع لمناقشة المسائل المتعلقة بمطالب المؤتمر (والتي كان من بينها إنشاء مجلس شورى ومطالبة القنصل البريطاني بعدم التدخل في المسائل الداخلية للبلاد)، إلا أن هذه الدعوة رفضت بحسب ما يستنتج الرميحي. ولو تمت الاستجابة لهذه الدعوة، وانعقد الاجتماع بتوافق الجميع، لكنا أمام تحوّل سياسي واجتماعي كبير. لقد كانت هذه الدعوة فرصة ثمينة لتفكيك المطابقة في أشكالها الجنينية الأولى، إلا أنها كانت فرصة ضائعة.
وكان الواحد منا يتصور أن أمامنا - اليوم - فرصة تاريخية أخرى للقيام بهذه المهمة التاريخية الكبرى لتفكيك المطابقة، وذلك حين كنا نراهن على النخبة الوطنية من قادة العمل السياسي الوطني وهم البقية الباقية من قوى اليسار والقوميين ممن تحرّروا من قيود انتماءاتهم الطائفية - وحتى الأيديولوجية الضيقة - بحيث ما عاد بالإمكان اتهامهم في وطنيتهم. إلا أن الانتخابات الأخيرة كشفت أن هناك جهات كثيرة مستفيدة من دوام المطابقة والتلازم بين الشيعة كـ «معارضة»، والسنة كـ «موالاة»، وعملت هذه الجهات ليل نهار، وبذلت كل ما في طاقتها من جهد ومال وإعلام من أجل تهميش هذه النخبة الوطنية، والسنية منها خصوصا؛ ليكون المشهد السياسي الذي سيرسمه مجلس النواب الجديد موزعا بين معارضة شيعية، وموالاة سنية. هكذا بقسمة مضبوطة لا يعكر صفاءها التام غير نائب سني معارض واحد!
وما يؤسف له أن هذه الجهات تمكنت من حرمان النخبة الوطنية السنية من أي مقعد نيابي، إلا أن الأخطر هو أنها تمكنت من إدخال إضافات خطرة إلى القياس الصوري الذي تحدثنا عنه قبل أكثر من شهر، والذي كان يسير وفق النسق الآتي: «كل معارض شيعي - عبدالرحمن النعيمي معارض - عبدالرحمن النعيمي شيعي». وتتمثل هذه الإضافات في قياس يتألف على النحو الآتي: «كل معارض يسعى إلى الاستيلاء على الحكم - عبدالرحمن النعيمي معارض - عبدالرحمن النعيمي يسعى إلى الاستيلاء على الحكم). وهذا قياس عملت جهات معينة على صوغه ونشره بين الناس ليترسخ في ظنونهم العامة. ويروي عبد الرحمن النعيمي نفسه أن امرأة اتصلت به وقالت إنها ستصوّت لصالحه في الانتخابات، إلا أنها تريد أن تتأكد من أنه «لا يريد الاستيلاء على الحكم؟!» (صحيفة «الأيام»، 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2006).
وإذا ما صارت النخبة الوطنية متهمة بالتهمة ذاتها التي كانت حكرا على الشيعة وهي الاستيلاء على الحكم، فإنه لم يعد من أفق لتجاوز التعارض الحاد إلا عبر السبيل الثاني، وهو تذكير الجميع، مسئولين وفاعلين سياسيين واجتماعيين، بضرورة بناء دولة المواطنة التي تقوم على فصل الطائفية عن الدولة والتعامل مع المواطنين كمواطنين لا كأعضاء في طوائف يتقدّمون بسببها أو يتأخرون.
ومن دون دولة المواطنة هذه سيبقى التعارض السابق قائما وسيبقى أي تحرك سني أو شيعي موضع ارتياب متبادل ومتهما حتى تثبت براءته (وهي عادة براءة مؤجلة إلى ما لا نهاية!). وسيستمر النظر إلى أي تحرك إصلاحي إما على أنه تحرك لوقف الإصلاحات من قبل السنة خوفا من أن يخسروا الامتيازات التي يتمتعون بها، وإما أن يكون تحركا للاستيلاء على الحكم و «مقدرات البلد» من قبل الشيعة بحسب ما يروّج البعض. في حين أن دولة المواطنة تعني أن الحقوق المدنية حقوق عامة لا علاقة لها بانتماء المرء الطائفي أو العرقي أو الطبقي أو الجندري (من حيث النوع)، وأن الدولة بخيراتها العامة ملك عام لا يجوز لأي طائفة أن تستملكه حصريا أو تحتكره لنفسها.
وأعود مرة أخرى للتأكيد أن المعارضة موقف سياسي صحي على أن تبقى المعارضة في حدود ما يستوعبه كل نظام. في حين أن الموالاة حالة مرضية وشاذة وانتهازية، واستمرار وجودها يعني استمرار النظام السياسي في قلقه وارتيابه في الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الآخرين. ثم إن استمرار الموالاة يعني استمرار عملية المديونية المتبادلة حيث يبيع «الموالي» ولاءه مقابل مكاسب ومنافع وخيرات يتحصّل عليها. وإذا كانت هذه الخيرات من خيرات الدولة العامة، فإن أية حالة موالاة توجد إنما تعني أننا نبتعد كثيرا عن بناء «دولة المواطنة» لصالح دولة «طائفية» منحازة تغدق على جماعات الموالاة من خيراتها العامة، وتحرم الآخرين من هذه الخيرات، ما يعني تجدد الصراعات الجماعية من جديد، وتحويل الدولة - بخيراتها ومقدراتها العامة - إلى مسرح لهذه الصراعات الجماعية.
لقد كانت الدولة هي الحل الذي اكتشفته المجتمعات الحديثة من أجل تجاوز حالة الطبيعة والفوضى وحرب الجميع ضد الجميع. إلا أن تاريخ البشر يثبت أن ظهور الدولة لم يقض، بصورة حاسمة ونهائية، على الفوضى والصراعات الجماعية، بمعنى أن المجتمع يمكن أن يعيش في حالة الطبيعة حتى مع وجود الدولة. هذا ما تنبّه إليه ابن خلدون في السابق، وهذا ما يسميه المفكر السياسي البريطاني وأحد دعاة «ما بعد الليبرالية» جون جراي بـ «أمراض الدولة الحديثة» التي أخفقت في مهمتها الأساسية وهي تحقيق السلم العام والقضاء على الحرب الشاملة. وبدلا من هذا صارت الدولة، هذه المرة، أداة من أدوات هذه الحرب الشاملة، فانخرطت مع الجميع في تنافس محموم على مراكمة استملاكاتها على حساب الآخرين.
وحتى لو لم تتورط الدولة في هذه الصراعات فإنها لن تكون بمنأى عنها، والحاصل أنها عادة ما تكون ضحية لمثل هذه الصراعات، بحيث تكون هي المقصودة بالاستملاك والاحتكار، فيدور الصراع العام حول حيازة ما تتمتع به الدولة من قوة وسلطة، وحول الاستئثار بما في حوزتها من ممتلكات ومنافع عامة.
وبهذه الطريقة جرت إعادة إنتاج لصيغة سياسية واجتماعية جديدة من الدولة إلا أنها أقرب إلى «حالة الطبيعة»، إذ الجميع في حرب ضد الجميع من أجل استملاك ميدان الدولة المشترك واحتكاره لنفسه وجماعته، فتحوّلت الدولة إلى مسرح لصراعات جماعية عرقية وطائفية ومناطقية وطبقية وأيديولوجية وأسرية. ولا فرق في هذا بين مجتمع شمولي وآخر ديموقراطي. وبحسب جون جراي فإن الدول الديموقراطية الحديثة أصبحت «أسلحة في حرب الجميع ضد الجميع، إذ تتصارع جماعات المصالح بعضها مع بعض للاستيلاء على الحكم واستغلاله في الاستيلاء على الموارد وإعادة توزيعها فيما بينها»، الأمر الذي يعني أن كل الأنظمة السياسية وأشكال إدارة الدولة الحديثة معرّضة إلى هذا النوع من «حالة الطبيعة» الجديدة. وهذا ما ينبغي على الدولة أن تحذر منه لا أن تقوم بإجراءات تسرّع عجلته، وتعجّل بحدوثه.
وأتصور أن أصل العلة يعود إلى فكرة الدولة نفسها بما هي عملية مركزة شاملة لا للعنف والقوة فحسب، بل لكل حقول الحياة ومجالاتها. فقد احتكرت الدولة العنف وتنازل لها الجميع عن القوة والسلطة من أجل تحقيق غاية واحدة فقط، هي حماية السلم الأهلي وتوفير الأمن وانتشال المجتمع من حالة الطبيعة والحرب الشاملة، إلا أن الدولة الحديثة أخفقت في هذه المهمة، والأدهى أنها لم تقف عند هذا الحد الضروري، فتجاوزت ذلك كله، فانفتحت شهيتها بغية احتكار كل شيء في المجتمع. وكانت النتيجة أن تضخمت الدولة وابتلعت الجميع وتزايدت وظائفها ومسئولياتها، حتى ضاقت مساحة التحرّك أمام الجميع. وبهذا صارت الدولة أقوى وأغنى من جميع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في المجتمع. وهو ما أغرى الجميع بالتفكير في الاستيلاء عليها. ولكل طريقته في هذا الاستيلاء، وبهذا المعنى فالموالاة تمارس استيلاء مقنّعا على الدولة.
والحق أن الخلل الذي حصل هو أن الدولة صارت فاعلا سياسيا من بين الفاعلين، فاعلا له مواقعه التي يتمركز فيها، إلا أنه فاعل يمتلك قوة لا تضاهى، ومنافع وخيرات لا تدور في خلد أحد، ثم إن مواقعه ذات حدود ممتدة على طول الإقليم وعرضه، ما يعني أنه فاعل موجود في كل مكان. وبهذه الصورة تضخمت الدولة وتزايد ثراؤها وقوتها، وعندئذٍ ظهرت الحاجة إلى الاستيلاء عليها من قبل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين؛ وذلك من أجل استملاك الحد الأقصى من قوتها وممتلكاتها ومنافعها العامة دون بقية الفاعلين الآخرين، بل عادة ما يجري توظيف قوة هذه الدولة وممتلكاتها من أجل الهيمنة على الآخرين وإخضاعهم. فتعود من جديد دورة الحرب الشاملة وصراع الجميع ضد الجميع.
ما حصل إذا هو أن الدولة تضخّمت بقدر يتجاوز بكثير حدودها الضرورية، فوسّعت على نفسها وضيّقت على الآخرين. و «الآخرون» هنا تنطبق على المواطنين كأفراد كما تنطبق على التجمعات والارتباطات الاختيارية الحرة بين هؤلاء المواطنين أي على المجتمع المدني الذي ليس أمامه في وضعية كهذه إلا أن يكون عاجزا أو عدوا للدولة.
وعلى هذا، فإن المطلوب للخروج من هذه الدوامة هو أن يجري تذكير الدولة بوظائفها الأساسية وحدودها الضرورية وهي حفظ السلم العام وتوفير الأمن للجميع. والأهم من هذا هو ألا تكون الدولة هدفا لأية سياسات استملاك من أي نوع كانت. وتكون الدولة بمنأى عن سياسات الاستملاك والتنازع حولها حين تكون قوية وذات وظائف محدودة ومقيّدة وخاضعة لحكم القانون في الوقت نفسه، الأمر الذي يضمن ولادة «المجتمع المفتوح» الذي بشّر به كارل بوبر، وهو مجتمع مدني حر غير مبتلع من قبل الدولة. وبهذا يمكن كبح دورة الصراع الجماعي على الدولة وخيراتها، وعندئذٍ تنقرض ظاهرة الموالاة بوصفها كائنا طفيليا يعتاش على ما يكسبه من خيرات نظير ما يبيعه من ولاء مزيّف.
وهذه قضية أعالجها بتوسّع في كتابي الجديد الذي سيصدر خلال هذا الشهر تحت عنوان: «طبائع الاستملاك: قراءة في أمراض الحالة البحرينية».
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1607 - الإثنين 29 يناير 2007م الموافق 10 محرم 1428هـ