في النصف الثاني من القرن السابع عشر دخلت البرجوازية التجارية والصناعية في أوروبا مجال الفعل السياسي بعد أن عانت من التهميش والإقصاء والنظرة الدونية في ظل المَلكيات المطلقة التي كانت سائدة في الأنظمة الغربية المستبدة التي استمدت قوّتها من دعم ومباركة الكنيسة. وقد أسفر النهوض السياسي للبرجوازية عن تقويض أسس تلك الأنظمة والذهاب إلى تبني القيم الليبرالية وإرساء دعائم المجتمع الديمقراطي في الدول الأوروبية. وقد حقق ذلك المناخ الضامن لحرية السوق والمحفز للمبادرات الفردية والإبداع مصالح هذه الطبقة من جهة ولبّى صالح التقدم المجتمعي العام من جهة أخرى. وبفضل ثقلها الاقتصادي وتنامي دورها السياسي ثبّتت البرجوازية دورها التاريخي في إرساء النظام الديمقراطي وتصليب عوده.
وعلى المستوى العربي دخلت البرجوازية اللبنانية بأعلى شرائحها التجارية والصناعية والمالية المعترك السياسي منذ الأربعينيات المنصرمة وقبضت على زمام الشأن السياسي حتى اليوم. وعلى رغم ما حققته ذاتيا من ثروات ضخمة ومن مضاعفة امتيازاتها الاحتكارية على وجه الخصوص، فإن الفضل يعود لها في إرساء أسس النظام الديمقراطي الأفضل عربيا. ولعبت البرجوازية المصرية منذ الثلاثينيات الفائتة الدور نفسه. وكذلك يمكن القول عن البرجوازية العراقية في الفترة ذاتها. أما خليجيا فقد كان للبرجوازية التجارية الكويتية دورا محوريا في وضع لبنات المجتمع الديمقراطي. وكان لها الفضل الأوفر في صياغة الدستور وتنظيم أول انتخابات ديمقراطية وإدخال الكويت بوابة الحياة البرلمانية.
وفي البحرين كان لبيوتات الطبقة التجارية بصمة عملاقة في بناء أسس الدولة المدنية الحديثة إداريا، تجاريا وتعليميا. وحينما تخلت هذه الطبقة عن طابع نشاطها التجاري التقليدي وولجت ميادين اقتصادية جديدة تتوافق مع مستجدات الحياة في مجتمع حديث كان يتشكل في البحرين، أسهمت بشكل واضح في تأسيس الدولة الحديثة ووضع بناها التحتية. وقد ذهبت البرجوازية التجارية أبعد من ذلك بدخولها المعترك السياسي فنشط قادتها السياسيون ضد الوجود الاستعماري وطالبوا بمجتمع موحد تطلق فيه الحريات وتصان الحقوق الديمقراطية لكل أبنائه. ولعل الحركات الوطنية منذ الثلاثينيات حتى السبعينات الماضية تشهد بذلك.
مع دخول البحرين عهد الاستقلال تراجع دور البرجوازية التجارية السياسي وتقدّم دور الدولة ممثلة في الحكومة. أمسكت الحكومة بزمام الأمر الاقتصادي ومصادر الدخل مثلما أمسكت بزمام الإدارة السياسية للمجتمع. وقد عزّز ذلك اتخاذ الدولة طابع الاقتصاد الريعي ذي المنحى الخدمي المُنفق مما مكّنها - دون منافس - من التحكم في تصريف كامل حياة المجتمع. ومن جانبه أسهم انعدام الفصل القانوني بين العمل الحكومي الرسمي ومزاولة العمل التجاري بشكل مباشر أو غير مباشر في تعزيز الهيمنة الرسمية على مفصل النشاط الاقتصادي. وامتد لتحديد محتوى ومستوى النشاط التجاري والصناعي الذي تتحرك في إطاره البرجوازية التجارية. وقد أفضى التركز الكلي لقيادة المجتمع في يد الدولة إلى تضاؤل التأثير السياسي للبرجوازية الوطنية وتخليها عن دورها التاريخي في طرح مشروع ديمقراطي تحديثي منوط بإجراء التغييرات السياسية والاقتصادية والثقافية اللازمة لتقدم المجتمع. وبذلك ابتعدت الطبقة المذكورة ابتعاد شبه نهائي عن ساحة المعترك السياسي البحريني حتى اليوم.
وعلى مدى ثلاثة عقود ونيف من الهيمنة الرسمية على مفاتيح السياسة والاقتصاد تكرّست لدى معظم شرائح البرجوازية التجارية أعراف التبعية لماكينة الدولة على الصعيد الاقتصادي، وثقافة «روح بعيد وتعال سالم» على الصعيد السياسي، وقيم السعي الحثيث لكسب الرضا والقبول الموصل للظفر بالصفقات والمناقصات والوكالات على الصعيد المصلحي.
الحاصل اليوم أن البرجوازية التجارية التي أوغلت بعيدا في أعرافها وثقافتها وقيمها لم تزل - برغم ما جرى من مياه سياسية - تتهيب دخول هذا المعترك وربما لم تزل شرائحها التقليدية ترفض غير مقتنعة بجدوى هذا الدخول.
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1604 - الجمعة 26 يناير 2007م الموافق 07 محرم 1428هـ