العدد 1604 - الجمعة 26 يناير 2007م الموافق 07 محرم 1428هـ

الطائفية في دائرة الاستراتيجية الأميركية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لاحظ صحافيون أن وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في جولتها الأخيرة على المنطقة العربية نسيت أو تناست ترداد تلك المفردات: إصلاح، ديمقراطية، حقوق انسان، عدالة، تمكين المرأة.

اكتفت بالتحدث عن منظومة أمنية جديدة في الدائرة الإقليمية للعراق، عن جبهة معتدلين لمقاومة التطرف. وهذا يتعارض مع كلام قيل سابقا عن تعديل خرائط، وتغيير سياسات، وتغيير أنظمه.

السؤال هل تغيرت أميركا؟ أو هل انهزمت؟ أو هل سحبت شعاراتها واستبدلتها بأخرى أم ان أميركا أساسا لم تكن تفكر بإصلاح المنطقة وتأسيس «النموذج» الديمقراطي الذي يمكن ان يحتذى في المنطقة؟

الإجابة تحتاج إلى نوع من التنجيم. فهناك من يقول انها كانت صادقة وفشلت الإدارة في مهمتها. وهناك من يقول انها كاذبة وخططت لهذا النموذج الذي اخذ يتفشى الآن من العراق إلى دول الجوار وتحديدا لبنان المعروف بحساسيته الطائفية والمذهبية وتأثره السريع بالرياح الإقليمية.

البحث عن الحقيقة من الأمور الصعبة في هذه الأيام. ولكن النتائج احيانا تساعد على معرفة الأسباب والبناء عليها لتوضيح بعض خلفيات الحقيقة الضائعة.

ما حصل ويحصل في العراق، وما يخطط له للحصول في لبنان وغيره يكشفان عن مشروع آخر يراهن على إستراتيجية التقويض وسياسة التفكيك في دول سياسية حديثة الإنشاء وتعتمد على تكوينات اجتماعية ضعيفة في تركيبها التاريخي وموزعة على طوائف ومذاهب وعرقيات واقوام واقليات واكثريات. وأكثر منطقة عربية تتكاثر فيها منظومة «الملل والنحل» هي المشرق العربي الذي يعرف احيانا ببلاد الشام، وأحيانا سورية الكبرى، وأحيانا سوراقيا (سورية والعراق)، وأحيانا الهلال الخصيب. وهذه المنطقة تمتد من العراق إلى لبنان وتشمل أيضا فلسطين والأردن.

هلال خصيب

الهلال الخصيب هو خصيب فعلا بهذا التكاثر المذهبي والطوائفي والاقوامي والعرقي والاقليمي والاكثري. لذلك تميز تقليديا بالتوتر والاضطراب وعدم الاستقرار بسبب تنوعه العصبي الذي يمنع عليه قيام دولة مركزية أو قوية أو ثابتة.

كل دول العالم يوجد فيها أكثريات وأقليات. إلا أن هذا الهلال تميز جغرافيا بكثافة هذا الكم من التنوع الذي منع وجود أكثرية واحدة وأقلية واحدة. وهذا ما جعل دول منطقة الهلال تعاني من سياسات التدخل الخارجي بسبب قدرة الدول الكبرى على استخدام ذاك الاختلال السكاني كسياسة يمكن من خلالها الضغط أو التأثير لتمرير مشروعات أخرى.

إذا أخذنا منطقة الهلال كساحة جغرافية للتحليل نجد انها فعلا خصبة في طبيعتها المتنوعة بين البوادي والمرتفعات والوديان والأنهار والجبال والسهول الزراعية. وهي بسبب تضاريسها المعقدة سمحت بتشكيل ابنية سياسية موزعة على جماعات أهلية معقدة في تضاريسها الاجتماعية.

باستثناء فلسطين والأردن يمكن القول ان ما تبقى من الهلال يتوزع على تجمعات أهلية مبعثرة على الملل والنحل. ففي فلسطين والأردن توجد اقليات صغيرة مسيحية ودرزية وشركسية الا ان ذاك الجزء من الهلال يحافظ إلى حد ما على نسبة معينة تضمن له الاستقرار على أكثرية. ولولا نكبة فلسطين وتهويد الأراضي العربية لكان بالإمكان أن يلعب هذا الجزء القطب الجاذب للتوازن الأهلي.

اما الجزء الآخر من الهلال فهو كما نرى يتوزع على أقليات وأكثريات مذهبية وطائفية واقوامية تحتاج إلى وقت لتسميتها. شيعة سنة دروز. موارنة ارثوذكس كاثوليك. سريان كلدان آشوريين. أكراد تركمان فرس أرمن. إسماعليين علويين أزيديين. وغيرهم من الأسماء التي تحفر في ذاكرة التاريخ للدلالة على وجود حضارات وثقافات وانظمة وديانات وتقاليد قديمة سابقة للفتوحات العربية/ الإسلامية أو تأسست لاحقا في ضوء تسامح الدول العربية /الإسلامية التي تأسست على امتداد زمني استمر نحو 14 قرنا.

رهانات أميركا

على ماذا يؤشر هذا التوصيف؟

أولا، ليست هناك من طائفة (أو مذهب) تشكل غالبية ساحقة.

ثانيا، الكلام عن مشروع سياسي يعتمد على مذهب واحد غير دقيق لأنه يفتقد إلى الموضوعية.

ثالثا، تأسيس دولة واحدة في هذا الخط الخصيب من الملل والنحل مسألة مستحيلة لأنها ستفتقد الى الاستقرار وعدم التوازن نتيجة عوامل واقعية.

على ماذا إذا تراهن أميركا في خطتها الجديدة التي تشكل الوجه الآخر لاستراتيجية التقويض وزعزعة الاستقرار؟

أولا، على الفوضى العامة التي تعتمد سياسة التفرقة بين المناطق وإعادة فرز التكوينات الاجتماعية مذهبيا وطائفيا. فالفوضى تؤدي إلى بعث المخاوف وتضغط نفسيا باتجاه الانتقال وتغيير مواضع الإقامة والذهاب إلى منطقة متجانسة. هذا ما حصل في العراق نسبيا، كذلك حصل في لبنان خلال حربه الأهلية.

ثانيا، تأسيس أكثر من دولة مذهبية. وإعادة توزيع الدول السياسية إلى دويلات مبعثرة على مناطق تتمتع بسمات متقاربة في أكثريتها و قليتها. والمشروع الفرنسي/ البريطاني الذي وضع خلال الحرب العالمية الأولى واستغنت عنه لندن وباريس واستبدلته بمعاهدة سايكس - بيكو معطوفة على «وعد بلفور» كان يقضي بإنشاء 17 دولة (ميكرو) في بلاد الشام والعراق. المشروع أقلعت عنه الدول الاستعمارية نظرا لصعوبته ومخاطره وجنحت الى تجميعه في خمس دول، إلا أنه كما يبدو من نتائج الصراع والحروب أخذت الولايات المتحدة تميل إلى تبنيه في حال قررت مغادرة مناطق الاضطراب في العراق بغية دفع القوى المحلية إلى الاصطدام في أمكنة الفراغات الأمنية والسياسية.

ثالثا، الإدارة الأميركية لم تتخذ قرارها الأخير في هذا الشأن. وتكتفي الآن بلعب كل الأوراق لتغطية فشلها الاستراتيجي وإيجاد ذريعة تبرر أسباب ذاك الفشل من نوع تخويف الناس من حرب سنية - شيعية كما جاء في خطاب بوش عن «حال الاتحاد». ولهذا السبب تراجعت رايس عن خطابها السياسي السابق (الإصلاح والتحديث) واستبدلته بخطاب أمني/ إقليمي يعتمد تكتيك تقسيم المنظومة العربية المشرقية إلى جبهتين تعتمدان على مراكز نفوذ محلية يغلب عليها الجانب الطائفي/ المذهبي. كذلك نشهد بداية صعود لتحليل جديد للمنطقة أخذت تروج له معاهد البحوث والدراسات الاستراتيجية ذات الصلة بالإدارة الأميركية. وهذا التحليل يؤكد صعوبة بناء دولة عصرية أوروبية في العراق نظرا لافتقاده إلى تلك القاعدة الاجتماعية التي تسمح بتأسيس منظومة علاقات متطورة. وهذه البدايات هي مؤشرات لنوع مختلف من التفكير يقوم على سياسة الفيدراليات المذهبية والطائفية وغيرها من تقسيمات لا مركزية تديرها دويلات مناطقية منسجمة مع التكوين الأهلي للجماعة.

هذا على الأقل ما يمكن تلمسه حتى الآن. وبعد الآن هناك الآتي والآتي أعظم.

@ المقال كلمة ألقيت أمس الأول في ندوة عقدت في مقر جمعية «وعد».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1604 - الجمعة 26 يناير 2007م الموافق 07 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً