إذا وضعنا في الاعتبار التعرف على فلسفة بعثة الأنبياء، التي تكثفت في خاتمهم وسيدهم محمد بن عبد الله (ص)، سنجد أن من أهمها: نشر العدل، وإقامة القسط، والتسوية بين الناس بما ينسجم وما تقدم من حقائق.
قال تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (الحديد: 25).
فالغاية من بعثة الأنبياء والرسل، كما هو واضح من مفاد الآية، قيام الناس بالقسط، الذي يعني نفي العدوان ورفضه، وعدم السماح به، ونيل كل ذي حق حقه. لا فرق في ذلك بين أن يكون الحق صغيرا أو كبيرا، ولا بين أن يكون من عليه الحق قوياّ أو ضعيفا، بل ولا بين أن يكون من له الحق صديقا أو عدواّ، فالعدل قيمة مطلقة، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّا أَوْ فَقِيرا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا» (النساء: 135). وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (المائدة: 8).
وهذه الغاية والقيمة المطلقة نابعة من أن الآمر بها، وهو الله تعالى، عادلٌ مطلقٌ، ومن الطبيعي أن يكون هناك تناسب بين الآمر والغاية التي ينشدها من أمره، قال تعالى: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِما بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (آل عمران: 18).
ولقد أعلن الله سبحانه ذماّ شديدا لتلك الأمم التي لم تحسن استقبال الأنبياء، بل تمادوا في ذلك إلى درجة قتلهم وتصفيتهم، فقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ» (آل عمران: 21)، كما أعلنها حربا شعواء وبلغة مغلظة في بعض مراتب العدوان على حقوق الآخرين، كما في الربا، وفي ذلك قال تعالى: «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ» (البقرة: 279). وقال تعالى عن بعض أهل الكتاب، وهم كما نعرف ليسوا مسلمين، وكيفية التعامل معهم بالعدل، حتى في الخصومات التي تقع بينهم وترفع للنبي (ص) أو لمن يقوم مقامه: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (المائدة: 42).
بل إن الاهتمام بالعدل والقسط حفظا لحقوق الناس تجلى في أن أطول آية في الكتاب الكريم هي الآية التي عالجت مسألة الدين وتوثيقه، وذلك في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيها أَوْ ضَعِيفا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرا أَوْ كَبِيرا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَة حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (البقرة: 282).
شمولية العدل
كما أن قيمة العدالة تشمل، إلى جانب الحقوق المادية، الحقوقَ المعنوية، قال تعالى: «وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (البقرة: 237).
معنى الحرية
والحرية التي ينشدها المسلم - طبقا لمنطق القرآن - كما ينشدها جميع دعاة الحرية، تعني أحد أمرين:
الأول: إعادة الحق المسلوب، سواء كان أرضا محتلة يسعى أبناؤها إلى(التحرر)، أو مسجونا يلح على إطلاق سراحه لينال (الحرية)، أو عبدا مملوكا يسعى إلى عتق نفسه لينال حريته...
الثاني: المحافظة على الحقوق من أن تسلب.
وإعادة الحق والمحافظة عليه لا يتصوران إلا بعد أن يقرر - نظرياّ وفلسفياّ - أن هذا (حق) ثابت لهذا الطرف أو ذاك. وهذا ما قمنا بعرضه في الأصل الأول، اذ أكدنا أن الإنسان في مقابل ربه (عبدٌ) وليس (حراّ).
وأما بين الإنسان والإنسان فلا ولاية لأحد على أحد مطلقا، فالأصل الأولي في طبيعة العلاقة هي (الحرية المطلقة) ولا يصح قرآنياّ أن يقيد أحدٌ حريةَ أحدٍ إلا وفقا للقانون الذي استعرضته مجمل الآيات والروايات التي بينت قواعده ومبادئه، وفصلت أحكاما تنبثق من تلك القواعد والمبادئ، وهي في مجموعها، على مستوى الأصول والتفاصيل، تقوم على أساس العدل والقسط.
ويُستثنى من هذا الإطلاق في الحرية ما أثبتته الآيات والنصوص الشرعية المعتبرة من ولاية نابعة من ولاية الله عز وجل، مما يقتضيه النظام الاجتماعي الذي لا يحق لأحد تجاوزه أو التعدي عليه لأن فيه افتئاتا على الحق المطلق، بمنظور أصحابه، وعلى حقوق أطراف هذا النظام الاجتماعي الآخرين.
السبيل إلى الحرية
ويدعم الوحي - كما نصت عليه الآيات القرآنية - الفلسفة من بعث الأنبياء والرسل بالتأكيد على أمرين:
1 - ان التغيير، والتحرر نوعٌ من التغيير، لا يتحقق من غير توفر الإنسان نفسه على نزوع ذاتي نحو المقصود، فقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (الرعد: 11).
2 - ان لمعارف الوحي دورا محورياّ في إحداث التغيير، من خلال إعادة صياغة الإنسان داخلياّ، وبمقدار تفاعل الناس في الدرجة الثانية، عبر وسائل تتوزع على إصلاح الجوانب العقلية والنفسية والسلوكية، بما يسوغ لنا تسميته أسس النهضة السبعة، ثلاثة توفرها الدعوة، وأربعة يتوفر عليها المستنهَضُون:
أولا: التطهير ، ثانيا: التنوير ، ثالثا: التحرير، رابعا: التصديق، خامسا: الانتماء، سادسا: النصرة، سابعا: الثبات والاستقامة.
قال تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ: الرَّسُولَ، النَّبِيَّ، الأُمِّيَّ. الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ. يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، وَعَزَّرُوهُ، وَنَصَرُوهُ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الأعراف: 157).
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حسن النمر"العدد 1603 - الخميس 25 يناير 2007م الموافق 06 محرم 1428هـ