العدد 1603 - الخميس 25 يناير 2007م الموافق 06 محرم 1428هـ

انقسام النخبة العربية بين تيار قومي وآخر ديني

بلاد الشام تدخل عصر الطوائف (7)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

شكل القلق نقطة توتر ثقافية ساهمت في تحريك أنشطة جيل «النخبة» في مطلع القرن التاسع عشر وشجعت على البحث عن مخارج تسعف الأمة على بلوغ مصاف التقدم التي نجحت أوروبا في إنجازه. إلا أن التفاوت العمراني بين الكتلتين الأوروبية والعثمانية جعل من تلك «النخبة» قوة حائرة حين عجزت عن اكتشاف الوسائل العملية وما سمي بالفتوحات الجغرافية والسيطرة على التجارة الدولية التي ساهمت في تقدم دول الغرب وتفوقها على دول الشرق.

هذه الأسئلة الحائرة تحولت إلى مخاوف عند بعض شرائح النخبة. وتركزت المخاوف على هوية الأمة وحماية الدين والمحافظة على الاستقلال في وقت كانت تبحث عن الرقي والتقدم والتمدن. وبسبب تعارض الخوف مع الرغبة تأسست اتجاهات توفيقية حاولت قدر الإمكان التلفيق بين الهواجس والطموح. وهذا ما جعل الفكر العربي في بداياته الأولى يركز على المحاكاة والتقليد متجاوزا مسألة العمران ومندفعا بقوة نحو تعزيز نزعة الإرادة وتطوير اتجاهاتها ودورها بهدف اختصار الوقت. وشكل الطموح المفتعل نقطة مشتركة بين السلطة والنخبة. فالسلطنة كانت تعيش بدورها هاجس الضعف والخوف من التفوق الأوروبي ولذلك لجأ السلاطين إلى اتخاذ خطوات تنظيمية متسرعة ظنا منهم أن تلك «الفرمانات» كافية لفتح الطرق أمام السلطنة وإدخالها بسرعة في عصر جديد انفردت أوروبا بقيادته. لكن تلك القرارات التي صدرت أحيانا بضغط من الحاجة الداخلية واحيانا بضغوط أجنبية خارجية ساهمت في تشكيل ولاءات غير منسجمة مع طبيعة السلطنة وهويتها ولا تفي بالغرض المطلوب من وراء إصدارها. مثلا اعترفت السلطنة في العام 1850 بنشاط الإرساليات الأميركية والانكليزية ودورها في المشرق العربي الأمر الذي فتح باب التنافس الثقافي/ الايديولوجي مع إرساليات فرنسية وكاثوليكية رسخت أنشطتها في الكثير من الميادين ولكنها في النهاية لم تسعف السلطنة على بلوغ غاياتها. وفي العام 1856 أصدرت السلطنة ما عرف بإعلان «خط همايون» الذي نص على الكثير من الإصلاحات الدستورية والإدارية ولكنه في الآن أعطى الجماعات الأهلية تلك الصلاحية التي تجيز حق كل طائفة في اعتماد قانون خاص للأحوال الشخصية. وشكلت هذه الخطوة بداية لتأسيس هيئات تشريعية وتمثيلية وقضائية لكل طائفة الأمر الذي بلور لاحقا ولاءات غير موحدة في رؤيتها للهوية الدينية والقومية والسياسية وجعل من كل «طائفة» وحدة سوسيولوجية شبه مستقلة إداريا تبحث عن هوية خاصة تنسجم مع هواجسها وتطلعاتها.

ضغط الحاجة والضغوط الخارجية لعبا دورهما لاحقا في تنمية نزعات استقلاليه بدأت تبحث عن هوية جامعة ولكنها ليست بالضرورة منسجمة مع روح السلطنة وكذلك لم تكن متوافقة مع بعضها. فكل «نخبة» اتجهت نحو ناحية تتناسب مع ثقافتها المحلية. وهذا ما ساهم لاحقا في تأسيس خطوط إصلاحية عربية متوازية تفتقد المركزية والوحدة. مثلا اشترك الثنائي الشدياق/ البستاني مع هواجس الثنائي الطهطاوي/ التونسي في البحث عن وسائل دستورية ومعاصرة لمحاكاة التمدن الأوروبي ولكن تلك الهواجس المشتركة تعارضت في تفصيلات كثيرة لعب الانتماء الديني دوره في رسم حدودها الثقافية. فالثنائي الشدياق/ البستاني ينتمي إلى المسيحية الكاثوليكية الشرقية وتأثر بالنزعة المسيحية البروتستنتية (الانجيلة الغربية) التي ساهمت الإرساليات الإنكليزية الأميركية في نشرها وبثها بينما الثنائي الطهطاوي/ التونسي ينتمي إلى الإسلام السني ويدين بالولاء للسلطنة الممثلة في السلطة المحلية، ما أدى إلى اختلاف الهواجس والطموحات والرؤية بين الثنائي الأول والثاني. وهذا بالضبط ما عناه ألبرت حوراني حين استعرض تاريخ الفكر العربي بين 1798 و1939 إذ ذكر أن القضية التي شغلت الطهطاوي وخير الدين التونسي كانت «كيف يمكن للمسلمين أن يصبحوا جزءا من العالم الحديث، من دون أن يتخلوا عن دينهم؟» (ص 121).

هاجس الخوف

هاجس الخوف على الدين شكل نقطة مركزية في إثارة القلق في وسط النخبة المسلمة. وكان الدافع إلى الخوف أساس البدء في التفكير في عقد تلك المصالحة التاريخية بين الإسلام والتقدم من خلال البحث عن تلك المطابقة «الايديولوجية» بين الدين والهوية القومية. محاولات المطابقة تلك يمكن قراءة الكثير من عناوينها في الكتب والمقالات التي صدرت في بدايات تشكل الوعي التاريخي للنخبة العربية. وكانت مشكلة تلك المطابقات الايديولوجية وجود مفارقات بينها وبين الواقع. وبسبب هذا التفاوت بين الوعي الايديولوجي واختلاف طبائع العمران بين أوروبا والسلطنة ظهرت تلك النزعة التوليفية التي توحد بين الإسلام والعروبة وبين القومية والدين. ولكن هذا التوجية كان أقرب إلى الايديولوجيا وأبعد عن الواقع. فالواقع كان يتحرك نحو مزيد من الاستعمار والاحتلال والانقسام والانشطار بينما الايديولوجيا النخبوية كانت تتحرك إرادويا نحو رفض الاستسلام والقبول بالأمر الواقع.

هاجس الخوف على الدين كان موجودا عند «النخبة الشامية» المشرقية / اللبنانية إلا أنه لم يحتل موقع الأولوية. فالأولوية الايديولوجية كانت للتقدم المحكوم بالهوية الثقافية وخصوصيتها. واختلاف الأولوية بين النخبتين أسس ذاك الافتراق النسبي في درجة التعامل مع السلطنة العثمانية، كذلك انعكس على تلك القراءات التي اجتهدت في البحث عن تقنيات معاصرة في التعاطي مع تحديات التمدن التي قذفتها أوروبا في وجه الإسلام.

من زاوية القلق أثارت «النخبة الشامية» سلسلة قضايا جديدة وطرحت مفاهيم مغايرة نسبيا للموروث والمتداول. وشكلت اللغة العربية نقطة مرور للكثير من النظريات السياسية. فاللغة تحولت إلى هاجس «النخبة الشامية» المشرقية/ المسيحية وبات الخوف عليها هو مصدر القلق. ولذلك تشكلت في مطلع القرن التاسع عشر بدايات حديثة للتعامل مع اللغة العربية. فهاجس الخوف على اللغة أسس تيارات تعشق اللغة وتدافع عن قواعدها وفروعها ومصادرها وأصولها العربية. وعشق اللغة فتح الباب الثقافي نحو ايديولوجيا عصرية تعشق الحضارة العربية ورمالها وصحاريها وشعرها وأدبها وصولا إلى جاهليتها. وبدأت منذ تلك اللحظات تتشكل بدايات فكر قومي معاصر يقدس الماضي العربي ويرى في اللغة العامل الأول لتوحيد الأمة. فالأمة في رأي هذا الرعيل النخبوي لا تساوي الدين، والدين لا يعادل القومية، والقومية تتشكل من مجموعة عناصر تنهض عليها الأمة. واللغة هي العامل الأول وبعدها تأتي الجغرافيا والطبيعة والثقافة والتجانس (الجنس والعرق) ووحدة المصير وأخيرا وليس آخرا يأتي الدين.

هذان الاتجاهان الأوليان ساهما لاحقا في تأسيس منطلقات ذاك الافتراق الايديولوجي بين خطين قوميين معاصرين في مطلع القرن العشرين. الأول يوحد بين الدين والقومية ويرى الأمة (الإسلام) والهوية (العروبة) لا تتعارضان. والثاني يفرق بين الدين والقومية ويرى أن الأمة (العرب) والهوية (اللغة والتاريخ وأحيانا الجنس) تتطابق من دون إنكار الإسلام ودوره الحضاري الخاص والمميز والمستقل في صوغ ثقافة الجماعة وحمايتها من التفكك والانقراض.

الانقسام الايديولوجي في النخبة العربية المعاصرة لم يكن وليد ردات فعل ظهرت سياسيا في القرن العشرين وإنما تشكل ثقافيا من تلك الهواجس التي تفاوتت في مخاوفها بين نخبة أعطت الدين الأولوية ونخبة غلّبت اللغة على العوامل التكوينية الأخرى لنهوض أمة. فمن مطلع القرن التاسع عشر أخذت تلك الخطوط الثقافية ترتسم في ضوء واقع التشرذم الذي كانت تمر به العلاقات الأهلية. وحين وصلت تلك العلاقات إلى لحظات الاصطدام الأهلي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت السلطنة تعاني المزيد من الضغوط وتتجه إلى تقديم تنازلات جديدة للغرب. ولكن هذه النزاعات الأهلية آنذاك لم تنعكس فورا على الولاء العام والمشترك للنخبة الشامية. فالفارق بين النخبتين أن واحدة أعطت الأولوية للدين والأخرى أعطت الأولوية للغة، بينما استمر الجامع بينهما الاعتراف بالسلطنة والبحث عن منظومة التقدم والخوف على الهوية. فالهاجس المشترك التطوير ضمن الوحدة. والوحدة واقعيا كانت منشطرة داخليا على خطوط التوتر الطائفي/ المذهبي من دون أن تتجه الأطراف نحو التخلي عن «عثمانيتها».

العثمانية آنذاك كانت تشكل ذاك المزيج المتنافر بين الإسلام (الدين) وتركيا (صاحبة السلطة). وهذا ما شجع لاحقا على تطوير تلك الإرهاصات الثقافية وتحويلها إلى تيار سياسي يطالب بفك الارتباك بين الإسلام وتركيا وإعادة ربطه بالعروبة في اعتبار أن العرب هم الأساس وجيلهم الأول هو من حمل الدعوة ورفع رايتها وساهم في نشرها مشرقا ومغربا خلال القرن الهجري الأول.

وبسبب نزعة المسيحيين المشرقيين العربية تشجعت الكثير من النخب المسلمة في تشكيل ايديولوجيا تميل إلى ربط الإسلام بالعروبة في اعتبار أن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم. وساهمت هذه النزعة في تأمين حماية للأقليات المسيحية. وهذا ما حصل إبان حرب الدروز والموارنة حين تدخل الأمير الجزائري عبدالقادر لمنع المذابح من مقره الجديد في دمشق. وهو المقر الذي اتخذه بعد أن نفته فرنسا من بلاده. هذه النزعة اللغوية (القومية) تحولت إلى دعوة لاحقا وتشكلت على قاعدتها بدايات جديدة لبلورة نوع من القومية العربية (الإسلامية). كذلك أعطت الكثير من الاتجاهات السياسية المتخالفة مع توجهات السلطنة تلك الذريعة الايديولوجية للبدء في تأسيس اتجاهات تدعو إلى نوع من اللامركزية الإدارية ورفض تسلط الأتراك أو تحكمهم في إدارة شئون السلطنة.

هذه الدعوات جاءت متأخرة سياسيا ولكن البحث عن جذورها يؤدي إلى اكتشاف تأثر تلك الاتجاهات الايديولوجية بذاك الوعي الذي وضعت بذوره الثقافية الأولى نخبة قلقة تجاذبتها تحولات متسارعة في فترة شهدت فيها السلطنة حالات من الاضطراب والضياع بسبب مرورها بمرحلة انتقالية من عصر السلطان الراعي للرعية إلى عصر السلطان الدستوري الشوروي. وهذا النوع من التفكير الانتقالي الذي يزاوج بين القديم والجديد يمكن أن نجد الكثير من إشاراته الأولى في كتابات الطهطاوي والشدياق والبستاني والتونسي.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1603 - الخميس 25 يناير 2007م الموافق 06 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً