العدد 16 - السبت 21 سبتمبر 2002م الموافق 14 رجب 1423هـ

«تفاهم» مساكوش المفروض أميركيا والأعراض الجانبية في السودان وقواه السياسية

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

لكل دواء أعراضه الجانبية، وقد تضمنت «وصفة» مساكوش «المفروضة» أميركا - بحكم منطق الشراكة وليس الوساطة - على كل من «الانقاذ» وحركة «قرنق» في 20 يوليو/ تموز 2002 وبعد فشل مفاوضاتهما جرعة قوية ومكثفة لتتسق مع طبيعة الداء.

فالمرض منتشر منذ قرن وربع، أي منذ الحاق الجنوب «إداريا» بحكمدارية السودان الخديوية (1862/ 1874) ثم الحاقه «دستوريا» العام 1947 بالسودان المصري - البريطاني.

واستفحل المرض عبر أربع ثورات (1955/ 1962/ 1967/ 1983). واخفقت في علاجه كل وصفات «الحكم المركزي - 1954/ 1972» و«الحكم الاقليمي الذاتي - 1973 - 1976» و«الحكم الولائي - 1991 - 2002».

أخفقت كل آليات التفاهم والمفاوضات التي تغطي محاضرها وبياناتها أكثر من 24 مجلدا تفوق حجم «الأغاني» لابي الفرج الاصفهاني والتي كان يحملها على ظهور الابل، بداية باجتماعات «أديس أبابا» في أغسطس/ آب 1989 ثم «نيروبي» في ديسمبر/ كانون الأول 1989، ثم «أيوجا / الأولى» في نيجيريا في مايو/آيار - يونيو/حزيران 1992، وأيوجا الثانية ابريل/نيسان - مايو/ - أيار 1993، ثم «نيروبي» في مايو 1993 حيث تمت الموافقة على «مبادرة الايقاد» التي كانت قد تأسست قبل عامين في 1991 من دول القرن الافريقي (اثيوبيا - ارتيريا - جيبوتي) وكذلك (كينيا ويوغندا) و«الأصدقاء» الذين تحولوا إلى «شركاء» وهم الولايات المتحدة وكندا وإيطاليا والنرويج.

وللأصدقاء «الشركاء» اجتماعاتهم مع «الايقاد» ثم ثلاثة اجتماعات تمت بينهم في «أوسلو - 10 مارس/ اذار 1999» ثم في «روما - 20 أكتوبر/ تشرين الأول 1999» ثم مجددا في «أوسلو - 20 يونيو/ حزيران 2002».

وانتهوا جميعا، «الايقاد» و«الشركاء» و«الانقاذ» لطرح مذكرة تفاهم ابتدائية اطلقوا عليها «إعلان المبادئ» بتاريخ 2 سبتمبر/ أيلول 1994، رفضتها «الانقاذ» في حينها واتهمت شركاء الإيقاد بتجاوز دورهم والانحياز لحركة قرنق، ثم ما لبثت الانقاذ ان وافقت على ما رفضته بعد ثلاث سنوات وذلك ما يتعلق بـ «تقرير المصير» و«علاقة الدين بالدولة» وغيرها في «قمة الايقاد» بنيروبي بتاريخ 7 يوليو/ تموز 1997.

ومنذ لقاء الايقاد و«إعلان المبادئ» في 1994 لم يحدث أي تقدم، فقد فسر كل طرف «الانقاذ» و«حركة قرنق» مبادئ الايقاد على طريقته، وحتى فيما إذا كانت «مُلزمة» أو «مُعلمة» قابلة للتداول فقط.

ثم عقد الجميع مؤتمرا سياسيا في نيروبي «21 سبتمبر وإلى 14 اكتوبر 2002» تداولوا فيه ما تداولوه من قبل نفسه، واختلفوا فيما اتفقوا عليه، ثم اتفقوا على انهم مختلفون.

وفرغ صبر أميركا التي ربطت ما بين شراكتها في «الايقاد» وشراكتها في «كل افريقيا» ففرضت مذكرة تفاهم مساكوش «فرضا» وبمنطق سبتمبر 2001 نفسه «من ليس معي فهو ضدي».

ولا يستطيع أي منهما - «الانقاذ» و«حركة قرنق» - ان يكونا ضدا للقطبي العالمي الأحادي ومصالحه الافريقية باتساع العولمة وآلياتها بما في ذلك التدخل العسكري.

ما بعد سقوط «توريت»؟

هذه مقدمة أدلف بعدها لما بعد سقوط «توريت» في الأول من سبتمبر 2002، إذ وجد الرئيس البشير نفسه محاصرا بتداعيات مساكوش الأميركية، والبشير الرئيس هو الذي أعلن على الملأ بتاريخ 27 أغسطس/ آب 2002 في مدينة «شندي» عاصمة عشائر «الجعليين» ان الأميركيين لم يعودوا طغاة»وان تفاهم مساكوش أفضل من مذكرة الانقاذ للعام 1998 وهو الدستور الذي كان قد وضعه الشيخ حسن الترابي. كما صرح لإحدى الصحف بتاريخ 26 أغسطس 2002 انه بالإمكان «التوصل للسلام بحلول شهر سبتمبر».

الذين يعرفون البشير عن قرب، يجمعون على ان الرجل «مخلص في كلماته» و«طيب السريرة». وهناك من يعلم علم اليقين، تسمعا واستماعا - ان تلك كانت «تعليمات الرئيس» لوفده العائد من بعد توقيع مذكرة التفاهم، وقد خرجت أميركا من قائمة «الطغاة» تمهيدا لأن يخرج السودان من قائمة «الارهاب»، بل ان تفاهم مساكوش يحدد علاقة الدين بالدولة، ويأتي على قسمة السلطة والثروة. فالبشير قد مضى إلى أبعد من «تفاهم مساكوش» ليصبح «دستور» مساكوش.

حتى انه أغلق الطريق - بشكل غير مباشر - على الذين أثاروا العلاقة بالمبادرة المصرية - الليبية فقال: «أنا أقول ان القلق المصري قلق مشروع، ولكن ما يقلقنا نحن هو القلق المصري على - الإرادة السودانية - «حديثة لمكرم محمد أحمد - 21 أغسطس 2002)، وكان قد أكد من قبل «ان حلايب سودانية ولا نستأذن أحدا في اتفاق يحض بلادنا» (حديثه لصحيفة «الوطن» القطرية 16 أغسطس 2002).

ثم اثر سقوط توريت في الأول من سبتمبر 2002 شعر الرئيس انه إذ يهيئ للسلام وبكل قوة الاندفاع لديه، وقال ما قال، وصرح بما صرح، الأمر الذي «يستوجب سلوكا مماثلا» من طرف حركة قرنق ولو لم يكن هناك اتفاق لوقف اطلاق النار أو هدنة - وبالذات بعد لقائه في «كمبالا» - عاصمة يوغندة مع العقيد جون قرنق بعد مشاكوس.

شعر الرئيس ان «نوايا» قرنق تتجه لغير نواياه، وقد كرس «لوحدويته» في تصريحاته بعد لقاء كمبالا. إذ كان المطلوب من قرنق ان يتخذ من المواقف ما يساند به مواقف الرئيس البشير، وأقل ذلك عدم القيام بأي عمليات عسكرية لتحسين مواقعه «على الأرض».

فالذين راهنوا على تفاهم مساكوش راهنوا في الحقيقة على مواقف الرئيس البشير و«صدق نواياه» والتي اثبتها بتلك التصريحات، والذين راهنوا - في المقابل - على «اجهاض» مساكوش يعلمون ان مراهناتهم يائسة إلا إذا تغير موقف الرئيس. وهذا ما حققه لهم قرنق.

فجاءت «غضبة الرئيس» وهي غضبة «مضرية» من تكوينه العشائري ذاته فلم يحاسب قرنق على ما لم يتم الاتفاق عليه من وقف لإطلاق النار، وإنما حاسبه على نواياه ومواقفه بعدما أبداه الرئيس وألزم به نفسه، فاستدعى الوفد المفاوض في مساكوش، وأعلن «التعبئة العسكرية» وأعاد تركيز القيادة في مدينة «جوبا» عاصمة الجنوب. وأوضح ان أي جولة مقبلة يجب ان تتضمن وقفا لإطلاق النار.

أميركا تكتم غيظها ولا تعفو

وكتمت أميركا غيظها، وهي ترى محاولة اجهاض مشروعها، بمثل ما كان عليه الحال، من أوسلو إلى روما، ومن نيجيريا وإلى نيروبي، فأوفدت على عجل مساعد وزير الخارجية الأميركي للشئون الافريقية قاطعة عليه انشغاله مع وزير الخارجية كولن باول لإعداد جولته في افريقيا، بما يعني «السودان أولا» وبعد ان رتبت أميركا للسودان «إدارة خاصة» في خارجيتها.

المسئول عن افريقيا ولتر كانستايز ترك وزيره وأصدر من نيروبي بيانا «ظاهره حض» الطرفين على مواصلة اللقاء وباطنه «انذار شديد» لقرنق الذي أساء التصرف والتوقيت، ممارسا نهج مناوراته منذ العام 1993، ولذلك النوع أو تلك «الفئة» من الانقاذيين الذين يجيدون الاصطياد في المياه العكرة، وتكامل جهد «كانستانير» في كينيا مع جهد المبعوث البريطاني في الخرطوم، والذي أعاد ملابسه إلى خزانتها بعد ان كان ذاهبا إلى المطار.

وتم تطويق الطرفين، قرنق من ناحية، و«الفئة تلك» في الخرطوم، فجدد الرئيس تعليماته لاستئناف المفاوضات بمنطق لكل «مقام مقال»، غير انها مفاوضات ولقاءات ستخلو من «حسن النوايا» و«طيب السرائر». ستكون حاسمة، سطرا بسطر، وكلمة بكلمة، ولو أقسم قرنق «جهد ايمانه» انه لن يناور. فالرئيس البشير رجل مؤمن ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.

وكذلك أميركا - بعد سبتمبر - غير مهيأة لأن تُلدغ - كما لُدغت من قبل - ولأكثر من مرتين في السودان.

بذلك فوتت أميركا على «صقور الشمال» تحليقها في فضاءات العصر الرئاسي، وخيبت ظن الشيخ حسن الترابي الذي أصدر حزبه «المؤتمر الوطني الشعبي» مذكرة إدانة «لتفاهم مشاكوش في 21 أغسطس/ آب 2002. كما خيبت أميركا مناورات قرنق نفسه، فأميركا الآن هي صاحبة القرار وليست «الايقاد» كما يفترض البعض، فلو تُرك الأمر للايقاد لدارت العجلة نفسها التي ذكرناها في المقدمة. فالايقاد الآن مجرد «غطاء بروتوكولي» وكينيا مستضيفة وليست في الحقيقة حتى ضيفا.

فإذا فهم الأمر على هذا النحو - على حقيقته - فليس ثمة مبرر لنزاع مع مبادرة «افريقية» اقصت المبادرة «العربية» - المصرية/ الليبية، فالمبادرة الافريقية للايقاد لم تفعل شيئا ولن تفعل شيئا ودليلنا ما كان من 1994 وإلى ما قبل مساكوش من هذا العام.

فالمطلوب من الاخوة العرب ان يأتوا بأوراقهم و«محاذيرهم» إلى الخرطوم من دون حسياسية من مبادرة افريقية عالية على مبادرة عربية. وأدري ان قولي هذا لن يعجب «السيدين» اللذين تكن لهما قطاعات واسعة من شعبنا الود والاحترام والولاء «الطائفي» وهما الصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني، الأول بحكم زعامته وليس «إمامته» للانصار.

والعثماني بحكم أنه شيخ الطائفة الختمية ورئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي ورئيس «التجمع الوطني الديمقراطي» فالسيدان مازالا يراوحان على تخوم الخلاف بين دور عربي وآخر افريقي، أو بين الايقاد والمصرية - الليبية ويوظفان جهودهما للقاء مبادرتين في زمن يطلق عليه الكرويون «الزمن الضائع»، فالأجدر بهما مساندة العودة إلى مشاكوس ووضع الحصان وراء العربة. وهذا ما طرحه السيد الصادق المهدي «الحل السياسي الشامل في السودان بتاريخ 18 أغسطس 2002 متضمنا تفاهم مساكوش لم يحن وقته بعد، فالصادق يريد ان يشترك إلى جانب «الايقاد» و«شركاء» الايقاد، ليس مصر وليبيا فحسب، ولكن أيضا نيجيريا وجنوب افريقيا، ذات المساهمات والمبادرات السابقة، ودول ذات علاقة خاصة بالسودان هي الصين وماليزيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت وكما جاء نصه: هذه الدول ينبغي ان تشرك بصورة محددة في عملية السلام والاستقرار في السودان. ثم طلب «مباركة الأمم المتحدة»

العدد 16 - السبت 21 سبتمبر 2002م الموافق 14 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً