العدد 1598 - السبت 20 يناير 2007م الموافق 01 محرم 1428هـ

الفتنة المذهبية... ورقة بوش الأخيرة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل تعتبر الفتنة المذهبية هي «الورقة الأخيرة» التي تملكها الإدارة الأميركية للتعامل مع دول «الشرق الأوسط»؟ حتى الآن ينفي الرئيس جورج بوش علمه بوجود مثل هذه السياسية. وتصريحاته الأخيرة أكدت أن واشنطن لاتزال تتمسك بوحدة العراق و»سيادته» و»استقلاله» وبحكومة وطنية تمثل كل الأطراف والأطياف والطوائف. كذلك لجأت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى النغمة نفسها حين أشارت مرارا إلى أن واشنطن ترفض تقسيم العراق وتشريحه إلى دويلات طائفية أو عرقية أو مذهبية.

هذا الكلام النظري يتخالف مع الوقائع. والمعلومات التي تسربت من العراق وتراكمت في السنوات الأربع الماضية أشارت بوضوح إلى وجود خطة تفكيك للبلاد بعد تقويض الدولة وتفريغها من القوى السياسية القادرة على الارتفاع فوق التناقضات الأهلية. فالتكتيك الذي اتبعته إدارة الاحتلال منذ سقوط بغداد حتى يومنا يشير إلى نهج مدروس قام على فكرة زرع الشقاق بين طوائف العراق واستغلال تلك التعارضات الموجودة بين أبناء الشعب الواحد.

منذ اليوم الأول لجأت إدارة الاحتلال إلى التفرقة وبدأت بإشاعة مفردات «شيعي» و»سيني» و»عربي» و»كردي» و»تركماني» واستخدامها بأسلوب يميز بين الفئات والأطراف. المفردات طبعا كانت موجودة ومتداولة منذ زمن سحيق والاختلاف لم تخترعه أميركا وإنما راهنت عليه واستخدمته للتشتيت وإعادة بناء علاقات متوترة تقوم على فكرة الاعتراف بالواقع. والواقع برأي الاحتلال ليس من اختراع الإدارة الأميركية وإنما الإدارة أعادت اكتشافه وتعاملت معه بواقعية بهدف إعطاء صاحب كل حق حقه.

إعادة اكتشاف الطائفية والمذهبية والعرقية والاقوامية والعشائرية في بلاد الرافدين شكل تلك المنهجية السياسية التي اعتمدتها إدارة الاحتلال منذ اليوم الأول. وتحت وطأة الفراغ الأمني الذي شهدته البلاد بعد تقويض الدولة وتفكيك الجيش ونهب المتاحف والمعاهد أخذت تنتشر فكرة «المحاصصة» والتوزيع العادل للحصص والنسب. وأخذ الكلام عن استيراد «الصيغة اللبنانية» يتحول إلى نوع من القناعة الايديولوجية بصفتها تلك الوسيلة الواقعية والمرنة لحل تلك المعضلة الطائفية والتمييز بين المذاهب.

وفي ضوء هذه الإشعاعات التفكيكية اتجهت إدارة الاحتلال إلى اعتماد سياستين: الأولى الفوضى «البناءة». والثانية صوغ دستور يقوم على فكرة الفيديرالية وتقسيم المناطق وإعطاء صلاحيات للأقاليم على حساب المركز.

السياسة الأولى بدأت من السلطة (الفوق) إلى الشارع (التحت). فمن فوق قررت إدارة الاحتلال اعتماد تغيير رئيس الوزراء كل شهر. وشهد العراق خلال السنة الأولى من الاحتلال تغيير نحو 12 رئيسا للوزراء بداعي «العدالة» و»المساواة» معتمدا الأحرف الهجائية أو الأبجدية من «الألف» إلى «الياء». فكان على رأس كل شهر يرحل رئيس وزراء ويأتي رئيس وزراء الأمر الذي أنهك السلطة وبعثرها وجلب إلى البلاد المزيد من الفوضى والخراب.

السياسة الثانية بدأت من تحت (الشارع) إلى فوق. فإدارة الاحتلال أخذت تواجه عمليات مقاومة منظمة ومدروسة الأمر الذي دفعها للبحث عن وسائل أخرى تشتت الأنظار وتمنع الناس من الالتفاف حول المقاومة. وبدأت منذ تلك الفترة تظهر تلك الأسماء المجهولة العنوان وأخذت ترتكب عمليات تفجير وتفخيخ ونسف وقتل عشوائي ضد الأحياء الشعبية والمراكز الدينية والمراجع ولم تستثن النساء والأطفال والشيوخ. وشكلت السياسة الثانية ترجمة ميدانية للسياسة الأولى. فأخذت الفوضى تتفشى وازدادت المخاوف بين الناس وبدأت عاصفة الثأر والانتقام والرد على القتل بالقتل تضرب المناطق والأقاليم والمدن والأحياء في ظروف كان الاحتلال يعمل خلالها على صوغ دستور لا يشجع على الوحدة ولا ينص على السيادة، ويدفع مختلف الأطراف إلى التمسك بالاحتلال لصيانة البلاد من التطرف الذي تمارسه شبكات مجهولة الاسم والعنوان و»فرق موت» لا وظيفة لها سوى الإسهام في الفرز الطائفي والمذهبي وإجبار الناس على ترك أمكنة إقامتهم والنزوح إلى مناطق متجانسة أهليا.

ادعاء البراءة

الإدارة الأميركية الآن وبعد أربع سنوات على الاحتلال تدعي البراءة وتتنصل من المسئولية وتتظاهر بحسن النوايا وتعلن أنها لم تدبر هذه الكارثة ولم تخطط لها. بل بلغت الوقاحة السياسية حد الفجور في التصريح بأن واشنطن ترفض التقسيم وتتمسك بوحدة العراق وسيادته واستقلاله، وتحذر المنطقة من حرب طائفية في حال قررت الانسحاب فجأة من بلاد الرافدين.

هذا الكلام النظري بحاجة إلى إثباتات. وكل المعلومات والوقائع الجارية مضافة إلى تلك السياسة التي اعتمدت تشير في مجموعها إلى وجود خطة راهنت على تقويض المجتمع وتفكيكه وتحويله إلى نموذج (فزاعة) تخيف به دول الجوار وتبتزها من خلال الضغط عليها بالتلويح باحتمال تصديره إليها في حال لم تتجاوب مع توجهاتها الاستراتيجية العامة.

الآن بدأت تتوضح ملامح هذه الصورة بعد إعلان بوش عن خطته الجديدة في «الشرق الأوسط». والملامح يمكن استنباطها من خلال معالم التقسيم المنهجي والمبرمج التي اعتمدتها إدارة الاحتلال في العراق. فالفرز المذهبي تقريبا اكتمل والتماسك الأهلي في كل إقليم ومقاطعة وصل إلى نهاياته ولم يعد أمام المحتل سوى إعلان ترسيم حدود الطوائف مستخدما تلك النصوص التي وردت في الدستور المصطنع والمفتعل. وربما يكون هذا هو النموذج «الحضاري» الذي وعدت به الإدارة الأميركية شعوب المنطقة حين قررت احتلال بلاد الرافدين. فواشنطن منذ الحرب وقبل وقوعها اعتمدت سياسة غامضة ولم تكن واضحة في تحديد أهدافها. فهي طرحت شعارات مغرية وبراقة وتحدثت عن الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان ولكنها اتبعت كل ما يخالف تلك المفردات واعتمدت سياسة منظمة لا تنتهي إلا إلى هذه النهاية التي وصلت إليها بلاد الرافدين. وادعاء «البيت الأبيض» البراءة وحسن النية وعدم المعرفة بطبيعة المنطقة السوسيولوجية وقلة المعلومات عن تاريخها والنقص في التعامل مع تعقيداتها لا يغطي تلك السياسة المنهجية التي برمجت خطة التقويض والتفكيك وبعثرة العلاقات الأهلية إلى تجمعات طائفية ومذهبية وعرقية.

هذا الادعاء بالبراءة والنزاهة وحسن الأخلاق والسلوك تكذبه الكثير من التقارير والدراسات والتحليلات التي صدرت عن معاهد الأبحاث (مؤسسة راند مثلا) وأشارت كلها إلى ضرورة تقسيم المنطقة وإعادة النظر بحدود دول «الشرق الأوسط» ورسمها من جديد حتى تتناسب مع البنية الاجتماعية التي تتكون منها المناطق والأقاليم. ولم تعد تلك الخرائط الجديدة من الوثائق محدودة التداول بعد أن نشرت على مواقع الانترنت.

قد تكون تلك البحوث والخرائط مجرد اقتراحات للتخويف والتهويل ولكنها الآن يبدو أنها تشكل وجهة نظر تأخذ بها بعض الاتجاهات المتطرفة في الإدارة الأميركية.

الوثائق تعتمد على تحليل تاريخي للمنطقة يقوم على فكرة أن شعوب «الشرق الأوسط» ليست جاهزة للديمقراطية وتعيش في حالات تخلّف تسيطر عليها عقليات مذهبية تحركها عصبيات ضيقة لا تستوعب نظريات حقوقية متقدمة تقول بالعدالة والمساواة والحرية. وبناء على هذا التحليل تقترح البحوث إعادة النظر في الاستراتيجية الأميركية والإقلاع عن أفكار التمدين والتحديث والتطوير والإصلاح واعتماد سياسة واقعية تتناسب مع ظروف المجتمعات وطبيعتها والمرحلة التاريخية التي تمر بها. وبرأي هذه المجموعات البحثية أن المنطقة موزعة على دول لا تعكس فعلا ذاك التجانس العرقي أو المذهبي أو الطائفي، ما جعلها عرضة للاضطرابات السياسية وعطل على السلطات المحلية إمكانات التفاهم مع السكان. وحتى تكون دول المنطقة مستقرة وقادرة على تحقيق التنمية تقترح تلك الخرائط إعادة تقسيم ما هو قائم وتوزيعه من خلال التفكيك أو الفرز على دويلات تنسجم مع التكوين الاجتماعي والمذهبي والطائفي. وهذا كما يلاحظ بدأت إدارة الاحتلال تحقيقه في العراق ميدانيا من خلال فتح الباب للاقتتال المذهبي والفرز الطائفي الذي أدى إلى سقوط 34 ألفا من القتلى و36 ألفا من الجرحى في العام 2006 فقط.

الفتنه الطائفية (المذهبية) التي عصفت بالعراق وبدأت تظهر ملامحها في لبنان ليست بريئة. فهي ورقة قوية تملكها إدارة الاحتلال في بلاد الرافدين وتستند إلى قراءات أكاديمية واستشراقية وبها يحتمل أن تهدد بتصديرها إلى دول المنطقة في حال قررت أميركا المواجهة أو اختارت خطوة المغادرة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1598 - السبت 20 يناير 2007م الموافق 01 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً