حاولنا في مقالة الأسبوع الماضي القيام برصد تاريخي للتحول في المطابقات من المطابقة بين الاتجاه القومي والمعارضة في الخمسينات، صعودا إلى المطابقة بين قوى اليسار والمعارضة في الستينات والسبعينات، إلى أن نصل إلى المطابقة التي تشكلت في أواخر السبعينات، واشتدّ حضورها بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، وصار لها امتداد كاسح إبان السنوات العصيبة في التسعينات. وكان لكل مطابقة من هذه المطابقات قواعدها الشعبية التي تصعد بصعودها، وتتراجع بتراجعها. وحين كانت المطابقة بين (الاتجاه القومي والمعارضة) في أوجهها كان المتعلمون المتنورون من أبناء الطبقة المتوسطة هم وقود المعارضة الحقيقي، وتذكر الإكونومست البريطانية في عددها (5874) في مارس/ آذار 1956 أن «في البحرين ما يقارب 800 طالب ممن تلقوا تعليمهم في مصر»، وتستنتج من ذلك أن «تأثير مصر على سير الحوادث في البحرين مستمرا». وحين حُلّت هيئة الاتحاد الوطني وتراجع المد القومي بعد نكسة يونيو/ حزيران 1967، وصعد نجم قوى اليسار، تراجع دور المتعلمين الـ 800؛ ليحل العمال محلّهم، وقد تعزّزت قوة اليسار بصعود طبقة العمال كقوة واسعة ومؤثرة، وصار لدى اليسار رصيد شعبي منقطع النظير آنذاك. وتراجعت هذه القوة حين شُلت حركة العمال وضعف دورهم في التأثير الواسع بفعل تدفّق العمالة الأجنبية إلى البحرين بصورة هائلة بعد الطفرة النفطية في العام 1973، حتى صارت العمالة الأجنبية تمثّل «في منتصف السبعينات أكثر من 60 في المئة من القوى العاملة في البلاد، الأمر الذي أضعف من قدرة العمال الوطنيين على التحرّك المعارض» (القبيلة والدولة، ص341). وتزامن هذا التراجع مع صعود نجم التيار الديني الذي تبلورت ملامحه في برلمان 73، وتعزّزت قوته بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وبفعل ما سمي آنذاك بـ «الصحوة الإسلامية» تمكن هذا التيار من تجنيد شبه كامل للقواعد الشعبية الشيعية من الطلاب والعمال والحرفيين وأبناء الطبقة المتوسطة من صغار التجار والموظفين والمدرسين والمهندسين والأطباء. وعندئذٍ انطلقت أضخم مطابقة محلية بين الطائفة والموقف السياسي. وهنا لا ينبغي أن نغفل الدور الكبير الذي يلعبه حجم القواعد الشعبية التي تسند أي تحرك سياسي واسع النطاق، والسبب في ذلك لا يرجع - كما يبدو للوهلة الأولى - إلى أن الرصيد الشعبي الواسع يمنح زعيم التحرك السياسي قوة ودعما ومشروعية واسعة فحسب، بل لأن هذا الزعيم عادة ما يحسب خطواته في التحرك بحسابات اقتصادية كمية، فمن يتحرك من خلال اقتصاد الوفرة يختلف عمن يتحرّك وهو محكومٌ باقتصاد الندرة في القواعد الشعبية؛ لأن التضحية بقاعدةٍ شعبيةٍ صغيرةٍ أشبه بعملية انتحار تهدد بفقدان كامل أفراد هذه القاعدة، ما يعني إجهاض التحرك السياسي برمته. في حين أن اقتصاد الوفرة في القواعد الشعبية يمنح الزعيم قدرة أكبر وحرية أوسع في التحرك المتصاعد حدّ التصادم؛ لأنه يتصور أن هناك ما يكفي من «خزان النفوس الاحتياطي» ؛لتعويض أي نقص يطرأ في النفوس لحظة المواجهة من سجن أو إعاقة دائمة أو نفي أو قتل. وحين نعرف أن هذه الوفرة والفائض في نفوس البشر المطيعين لم تتوّفر إلاّ للتيار الإسلامي الشيعي في الثمانينات والتسعينات، فإننا نستطيع أن نقدّر حجم المواجهات الدموية التي كان هذا التيار مستعدا لخوضها. وتتعاظم دموية هذه المواجهة إذا تذكرنا قدرة الخطاب الديني على تعبئة «الجماهير»، بحيث تتصور هذه «الجماهير» أن ما تقوم به ليس مجرد واجب سياسي فحسب، بل هو استجابة لواجب ديني مقدس، وتنفيذ لمهمة تاريخية عظمى. لقد تجذرت هذه الحالة في الثمانينات والتسعينات، حتى صار لدى القواعد الشعبية الشيعية المتدينة استهانة بالحياة تعادل حجم حبهم للتضحية و»الاستشهاد». ومن سوء حظ هذا التيار وقواعده أن صعوده (أو صحوته) قد تزامن مع البدء في تنفيذ قانون «أمن الدولة» الذي كان السبب في حلّ البرلمان في العام 1975. لقد كان من حسن حظ القوى القومية وقوى اليسار أنها تواجهت مع الحكومة على قاعدة حالة الطوارئ التي أعلنت في البلاد في ليلة الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1956 بعد حلّ هيئة الاتحاد الوطني، في حين كان قدر القوى الشيعية المتدينة أن تتواجه مع الحكومة على أرضية أقسى وأفظع قانون أمني عرفته البحرين في تاريخها الحديث. ولنا بعد هذه المعطيات أن نتخيّل حجم المأساة التي ستحلّ بالجميع على هذه الأرض: وفرة في نفوس مطيعة ومستعدة للتضحية بالغالي والنفيس كواجب ديني مقدس، كل هذه المعطيات تقف في مواجهة حكومة مستنفرة ومتسلحة بجهاز أمني في غاية القسوة، ومدعوم بقانون حديدي وقمعي لا يرحم.
كانت المأساة عظيمة حقا، وكان من عواقبها وحصادها المرّ أن الطرفين: الحكومة والقوى الشيعية، خرجا من أرض المواجهة بتجارب مريرة وخسائر فادحة، والأهم أن كلا الطرفين خرج من هذه التجربة وهو يعاني من مرض نفسي تمكّن من الاثنين، بل أصابهما في الصميم. فالحكومة فقدت الثقة في الإسلام السياسي الشيعي بقادته وقواعده الشعبية، وصارت تعاني - بسبب ذلك - من الشك والارتياب المرضي في كل ما هو شيعي، وبهذا صارت الحكومة ضحية من ضحايا الارتياب المرضي، وظلت تتخيّل وجود مؤامرة شيعية وراء كل حادث عرضي. وهذه أعراض مرض نفسي متمكن سنطلق عليه هنا مصطلح «شيعة فوبيا». وفي المقابل لم يكن الناس من الشيعة والسنة بمأمن من لوثة الأمراض النفسية هذه، وحول هذه القضية ستدور مقالتنا للأسبوع المقبل إن شاء الله.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1593 - الإثنين 15 يناير 2007م الموافق 25 ذي الحجة 1427هـ