العدد 159 - الثلثاء 11 فبراير 2003م الموافق 09 ذي الحجة 1423هـ

العامرية... كارثة وقعت أمام صمت العالم

ذكرى ملجأ حوّلته قنابل الحرب إلى مقبرة للأطفال

تمام أبو صافي comments [at] alwasatnews.com

يوم الثلثاء 13 من فبراير/شباط العام 1991 (27 رجب 1411 هـ) لم يكن كأي يوم من أيام الحرب على العراق، بكت مساجد وكنائس بغداد. بكت شوارعها وأزقتها ونخيلها وطيورها ونهراها الصامتان على ما أتى به القدر، جميعهم تمنوا أن يعود الزمان ولو إلى ساعات قليلة لعل ملتجئي العامرية يجدون طريقهم إلى النجاة هذه المرة.

أمام صمت العالم بكت عاصمة العراق الأبية وأبكت كل المدن في تشييع شهداء العامرية، فهولاء لم يكونوا جنودا في حرب لكي يقتلوا من قبل أدعياء حقوق الإنسان والمدنية.

في العامرية صودرت صلوات الناس واستغاثاتهم وأنفاسهم وأحلامهم، او ربما التقت أحلام أطفال العامرية بأحلام من سبقوهم في بيروت العام 1982 او تعانقت الأحلام نفسها مع أحلام أطفال قانا في جنوب لبنان العام 1996، فقتلة بيروت والعامرية وقانا جميعهم ولدوا من رحم واحد.

كان قد مـر على الحرب اكثر من ثلاثة أسابيع، عاشها سكان حي العامرية غرب بغداد حالهم حال كل أحياء العراق بمدنـــه، وقراه، وباديتــــه، الطائرات تقذف نيرانها، تشعل الأرض وتحرقها، تنشر الدمار والموت في كل العراق، صوتها يمزق السكون ليل نهار، صواريخ عابرة للقارات، طائرات متطورة سرعتها ضعف سرعة الصوت تهاجم أسراب ومجموعات، تستهدف كل شيء.

يقـــــف أهل حي العامرية على أسطح منازلهم، يشاهدون عاصمتهم تــدك، تُقصف من السماء، ها هو جسر الجمهورية الشامخ الذين اعتادوا أن يروه يربط ضفتـي النهر قد قطع إلى ثلاثة أجزاء تهاوت في الماء، ها هو قصر المؤتمرات تشتعل فيه النيران، منذ أول أيام القصف سُحب الدخان تلف أطراف بغداد.

يصرخ صبية الحي الآن قد مر صاروخ (كروز) من فوق رؤوسنا هيا نرى أين سيهوي كل الأنظار تتابع الصاروخ ومحاولة اعتراضه من قبل الدفاعات ولكن (الكروز) يخترق سماء بغداد حتى يصل به الحال إلى بدالة الهاتف ليحولها إلى حطام، وها هي الطائرات نسمع هديرها ولا نراها، ها هي تحول أحد الأماكن الخدماتية إلى ركام. مرت ساعات توقف القصف الثلاثيني ، هرع سكان حي العامرية يحملون بعض المواد التموينية والأغطية إلى الساحة الكبرى حيث شيد هناك ملجأ اخذ مكانه بين مدرسة ومسجد في شارع «المضيف»، محصن تحت الأرض ضد الضربات الكتلوية أي الضربات بالأسلحة غير التقليدية، لا يمكن أن تصله نار الموت، فهو يتألف من ثلاث طبقات مساحة كل منها 500 متر مربع بجدران اسمنتية مسلحة يصل سمكها إلى متر ونصف، سقفه العلوي بني بعوارض حديدية يصل سمكها إلى 4 سنتيمترات، أبواب حديدية تزن 5 آلاف كغم مصفحة تصمد أمام خطر شظايا القنابل ، تغلق تلقائيا في حال حدوث انفجار في الخارج، ولا يمكن فتحها الا من الداخل. فهو أكثر الأماكن أمنا كي يلجأ إليه العائلات.

مع نشوب الحرب أصبح بيتهم الكبير، يلجأ إليه النسوة والأطفال، يحل الظلام يفترشون الأرض، كل أم من حولها أطفالها، على حضنها رضيع يبتسم حين تلاعبه أمه، ابا حضر مع عائلته كي يطمئن عليهم قبل أن يذهب إلى مناوبته فهو يعمل في الدفاع المدني، يسأله أحد أولاده هل الذين استشهدوا من القصف لو كانوا مختبئين في هذا الملجأ لنجوا؟ يتنهد الأب قليلا وهو يقول «هذا قدرهم لقد طالتهم يد القصف المجرم» فتقاطعه زوجته وهي كمن يريد أن يزيــح الخوف من عيون الأطفال «ربما لم يكن عندهم ملجأ يحميهم» يقبل أطفاله يحتضنهم ويوصيهم أن يسمعوا كلام أمهم، ثم يلتفت الأب إلى أمه الحاجة. ويقول «ها أمي لا ينشغل بالك الله كريم الله الستار» يقبل يديها ورأسها وهي تغالب دموعها قائلة «الله يساعدكم ويحميكم»، في هذه الأثناء تصل شقيقته وأولادها الخمسة لينضموا إلى تلك الزاوية من أحد غرف الملجأ الكبير، فيقول أبوخالد: ها أختي شلونك؟ تجيب «الحمد لله هذا حالنا» يساعدها أخيها على ترتيب فراش وبعض البطانيات ليتسع المكان للجميع، جلس الجميع لتناول وجبة العشاء، والبعض منهم قرر أن يؤخر وجبته إلى وقت السحور كي يقدر على صوم اليوم التالي المصادف 27 من رجب.

تأتي أم غيداء بوحيدتها غيداء إلى الملجأ لكي تنام هناك مع النسوة، ام غيداء قررت اليوم أن تبيت في بيتها في حي «السيدية» ليتسنى لها غسل ملابس بعض أطفال ونساء الملجأ، فالحروب تصنع لك رفقاء يشاركونك المسئولية والخوف والشهادة.

تمازح إحدى الناس ام غيداء بالقول «مشاء الله غيداء عروسه الحين، تقاطعها ام غيداء» بعد كم يوم عيد ميلادها ما يندرا نقدر نحتفل بيها.

تعود ام غيداء إلى بيتها وهي مطمئنة فقد يدركها الموت ولا تصل يده إلى عروسها غيداء التي اخذ الموت منها أبيها في حرب الخليج الأولى.

في الليل واصل التحالف قصفه لبغداد التي أضاءت كشجرة «عيد الميلاد» حسب تعبير إحدى طياري سلاح الجو الأميركي، هولاء الطيارون جلبوا لأطفال العراق هداياه عيد الميلاد معهم من أميركا وحرصوا على أن تغلف باليورانيوم ليكون لها اثر اكبر يدوم لسنوات.

مضت ساعات الليل ثقيلة وقاسية على كل العراق، وأصوات أسراب الطائرات تأبى الصمت ولو لدقائق، صوت المؤذن يأتي في محاولة بائسة ينادي لصلاة الفجر، فالصلاة تمنح الطمأنينة والسلام.

في داخل الملجأ يبدو المكان صامتا، يأتي بكاء طفل رضيع غير أبهن بكل حروب الكرة الأرضية، خصوصا إذا كانت حروب نفطية، تحتضنه أمه وتبدأ بإرضاعه وهي تفكر في حال والده الذي لم يره منذ أتى إلى الدنيا، تهم الحاجة أم عدنان بقراءة أدعية حفظتها عن ظهر قلب بعد الصلاة، تدعو الله أن يخرج العراق من محنته وان يعم السلام، عقارب الساعة تقترب من الرابعة والنصف، لحظات قليلة توقف كل شيء عن الحركة، وكأن الزمان قد خرج من مساره، صوت انفجار كبير جعل سكان الأحياء المجاورة للعامرية يتساءلون أين وقعت الضربة هذه المرة، قبل أن يكملوا اسئلتهم او حتى محاولتهم لفهم ما يحدث جاء التأكيد بفعل قنبلة ثانية أتت لتكمل مهمة الأولى، القنبلتين كل منهما عيار 2000 رطل، نصف خارقة، مقدمتها معدنية تقاوم الكونكريت والحديد، وتخترق الجدار من دون انفجار لتنفجر في الحيز الداخلي، أتت الأولى ولم تنجح في اختراق السقف العلوي ولكنها أضعفته واتت الثانية ونجحت واخترقت الجدار، وربما منحت من أطلقها وسام شرف من قائده العسكري يتباهى فيه أمام رفاقه طيلة حياته.

الملجأ الذي يعد اكثر الاماكن أمنا في حروب العالم كلها تحول ألان إلى مقبرة جماعية، صهرت قضبان الحديد فيه قبل الناس.

ملجأ 25 الذي اخذ اسمه من الحي الذي يقع فيه «العامرية» تحول آلان إلى ملجأ الموت، بل الجحيم بعينيه، جاءه عمال الإنقاذ في محاولة اكثر من يائسة لإنقاذ الملتجئين، من بينهم من وضع أسرته تلك الليلة بينهم. وودع اطفاله بقبلات لم يكن يعلم انها ستطبع على جباههم للمرة الأخيرة.

الباب الذي كان يفصل الملتجئين عن الموت القادم من الخارج، اصبح الآن يفصل من في الداخل عن أي أمل في الحياة، فلم يستطعيوا الأحياء فتحه من الخارج ولم يستطع الأموات فتحه من الداخل.

النار والدمار أعاقت عمليات الإنقاذ فاستمرت ثلاثة أيام بليلها، فتح باب السعير، ها هو ابوخالد أول الداخلين من بوابة الجحيم، أول ما وقعت عليه عينيه الدامعتين أم حضنت طفلها بين ذراعيها رمت بها قوة الانفجار إلى اقرب نقطة من الباب، لكن الانفجار لم يستطع ان ينتزع وليدها من بين ذراعيها، يواصل ابو خالد بحثه بين الأشلاء عله يجد فردة حذاء لواحد من أطفاله او قطعة قماش من ثوب رفيقة عمره، او سبحة أحضرتها أمه معها في آخر زيارة للعتبات المقدسة.

كل شيء هنا صودر بفعل نار الجحيم، صودرت طفولتهم وأمومتهم وشيخوختهم من دون تفريق،صودرت أحلام أطفالهم وفتياتهم، ماذا يا ترى كانت تحلم عروس العامرية غيداء؟ هل حلمت بثوب جديد في عيد ميلادها، أم كانت تحلم بصورة رسمتها في مخيلتها عن اب مفقود في حرب أكلت الأخضر واليابس لمدة ثمانية سنوات، كل شيء بات مفقودا.

هي ذاتها السماء نفسها، والأرض نفسها التي تحيط بملجأ العامرية أمام المسجد ومدرسة الجنائن الابتدائية ، لكن رائحة الموت تلف المكان. قيل 421 شخصا او ربما اكثر فسجلات أسمائهم قتلت معهم.

314 جثة أخرجت من الملجأ والباقي أشلاء متفحمة لم يعرف لها هوية. بعض من خصلات شعرهم وجلودهم لاقت مكانها على جدران الملجأ، بين ضحايا شهداء العامرية طفل لم يبلغ السبعة أيام من العمر، لم يعلم لماذا ولد لكي يموت بهذه الطريقة الدموية، وكأنه أتى إلى الدنيا ليموت بين أطفال العامرية.

14 شخصا قدرت لهم النجاة لكن الصمت سيبقى شريكهم للابد، فالنجاة من الموت من دون أحبائك تعادل الموت ألف مرة

العدد 159 - الثلثاء 11 فبراير 2003م الموافق 09 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً