في حين يميل أكثر الذين أقابلهم إلى القبول المتردد قليلا بالمنطق الأميركي في توجيه التهمة إلى ابن لادن، فإني مازلت أحافظ على شكي، ولكني أحاول بين خبر وآخر، أن أضع نفسي في سياق فرضيات، منها أن ابن لادن هو المخطط والآمر، وأن المنفذين مسلمون سواء كانوا عربا أوغير عرب، من دون ضرورة لأن يكون هؤلاء هم أنفسهم أصحاب الأسماء التي تتداولها الأجهزة الأميركية من دون تثبت... وما علينا إن كان هذا، خطأ أو عمدا، يقع فيه الكبار والصغار معا، والكبار قبل وأكثر من الصغار... والمهم أنه على مقتضى هذه الفرضية أو التسليم الجدلي بالتهمة الأميركية، والذي قد تكشف الوقائع أو التحقيقات انه واقع فعلا وحقيقة دامغة، ما الذي أفهمه من الحدث وفي أي خانة أو سياق أضعه؟
ان قضيتنا المركزية هي فلسطين، وحدتنا الوطنية أو وحداتنا الوطنية العربية، تبقى مهددة مع احتلال فلسطين وعدم وصول الشعب الفلسطيني إلى حقوقه المشروعة.
وهذا لا يمس بصحة مقولة ان وحدتنا الوطنية اللبنانية ووحداتنا الوطنية العربية وتضامننا العربي شرط لتحرير فلسطين... ولكن عدم تحققها، أي الوحدة، هذه المرة، أو هذه الانتفاضة، لم يترتب عليه خلل كبير، لأن الشعب الفلسطيني أدرك أن مصيره بيده أولا وأخيرا، وأنه لابد أن يبادر إليه موحدا متوحدا أو منفردا، فاجتمعت جميع الفصائل والحساسيات على هذا الأمر، واستمرت الانتفاضة تقدم، المزيد من الدم والصبر وعلى إيقاع الدم تترسخ الوحدة الوطنية ويضيق الخناق على شارون، ويتعرض الكيان لأسئلة مصيرية ومساءلات وجودية كان غافلا عنها، فأظهرتها الانتفاضة، لتكشف عمق الأزمة في بنية الكيان ونصابه الإيديولوجي. وعلى مقياس الوحدة الوطنية يمكن الحديث عن خروجنا من التخلف والتخليف إلى التقدم، ومن الاستبداد إلى الديمقراطية، ومن العنف العربي والوطني المتنقل إلى السلام العربي والسلام الأهلي الوطني الخ... وكلها شروط على طريق التحرير، كما أن التحرير شرط على طريقها.
ومعلوم لدى العالم وقليل العلم، ولعله معلوم لدى جهلائنا. ان المس بالكيان الصهيوني في جذوره هو مس بالمشروع الأميركي في جذورهم في الأقل في جذوره الممتدة إلى تربتنا العربية والإسلامية... ولا بأس من التسليم هنا بأن زوال النظام الأميركي من الوجود هو زوال ضمني وأكيد للكيان الصهيوني من جذوره، وإلى غير رجعة.
ولكن هل هذا ممكن الآن وبالضربة القاضية؟ هل هو مطلوب أم أن المطلوب هو كفاح مدروس ومؤقت بشكل دقيق، وموضوع على سلم أولويات دقيقة وحساسة؟ يعني أن العلاج الناجح هو استنهاض حال عربية وإسلامية متناغمة مع حال صينية ويابانية وأوروبية إلى حد كبير، تضع حدا للاستئثار والتفرد الأميركي، وتعيد النظام الأميركي إلى صوابه وإلى سياق كوني إنساني يصفي ما تبقى من التركة الاستعمارية ومن محاولات تجديد الاستعمار على موجب تجديد الرأسمالية بالعولمة المتوحشة والكاسرة والمعادية للقيم والمعايير.
إذن... فقد كان المنطقي هو أن نعطي الأولوية المطلقة لفلسطين والانتفاضة، وما من ظرف كان يمكن فيه أن يكون شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» شعارا صادقا وواعيا وقليل المخاطر، كالظرف الحالي، أي ظرف الانتفاضة، التي أمنت لنا الاحتياط اللازم، من أن يتحول هذا الشعار إلى ذريعة للنظام العربي إلى تعطيل كل شيء من الحريات إلى كل مظاهر الحياة.
إذن... فهذه الضربة القوية للجسم الأميركي في مجمع لحساسياته السياسية والإدارية والعمرانية والاقتصادية والمالية والعلمية... كان يمكن الاستعاضة عنها بضربة أخف وأعمق دلالة لا تمكن الولايات المتحدة من استنهاض الداخل والخارج تمهيدا لرد كوني... ولا تعطيها ذريعة لانهاء الانتفاضة، في لحظة انكشاف عربي تام وكامل وشامل... إذن فهذه الضربة الثورية لا تنسجم مع الصورة المتوقعة أو الناجعة لقائمة أولوياتنا العربية والإسلامية.
لأن أي عمل ثوري يقاس عربيا وإسلاميا بأثره وتأثيره على فلسطين... ولقد كانت أولى النتائج وأهمها ترتيبا على ما حصل، هو وضع الانتفاضة على طريق صعب.
لقد اهتزت عمارة الانتفاضة مع انهيار البرجين... والحدث لا يقع في طريق مصالحنا أو ضمانات مستقبلنا، وخصوصا أننا نتمتع بكل عوامل وعوارض القصور الذاتي، التي تمنع استفادتنا كما هو واضح إلا إذا تحقق الشرط الأساس، وهو اكتمال هزيمة الصهيونية ولو جزئيا، لأن المسار التراجعي لها إذا ما بدأ فلا أحد يضمن وقوفه عند حد من الحدود. يعني أن دولة فلسطينية مستقلة على أرض الضفة والقطاع وعاصمتها القدس الشرقية هي إعلان لعهد من عافيتنا مشروطة بشروط أخرى كثيرة. يبقى لنا مقدار من الثقة بأن هذا الشعب الفلسطيني يفاجئنا دائما، وعندما يطبق الخناق عليه، يبدأ حراكه في اتجاه التحرر والتحرير... لن نيأس... ولكن الذي حصل في نيويورك وواشنطن لا يصب في فلسطين... وما لا يصب في فلسطين لا يصب في مكان أو وعاء أو مستقبل عربي أو إسلامي... والتاريخ وقائع تفسر بوقائعها لا بالنوايا التي تكمن خلفها... ومع انحيازي الشديد للشعر والشعراء... فإني أخاف أن نكون قد أفلتنا العصفور الذي في يدنا (الانتفاضة) في مقابل العشرة على الشجرة... وهل هناك عصافير غير فلسطين؟ هل بالضرورة، إذا خسرت أميركا أن نربح؟ المسألة أشد تعقيدا وأوضاعنا أشد تعقيدا
العدد 159 - الثلثاء 11 فبراير 2003م الموافق 09 ذي الحجة 1423هـ