أن تشك، معناه: أنك مازلت قادرا على استحضار الأمل والحياة والإصلاح. شكَّ الإنسان في أنظمة الحكم الكليّانية، وتنامى شكه، ولايزال. أما حصيلة ذلك اليوم، فهي هذا الشكل الحديث للدولة المدنية، على علاتها. أما الاستراتيجي في هذا كله فهو اعتبار «الشك» و «التشكيك» أنجع آليات الوصول لنماذج سياسية واجتماعية متطورة. وهذه المقدمة تأسيسية لما سيأتي.
في التجربة القضائية المصاحبة لنماذج النظم السياسية الملتوية في الدول العربية إرث تاريخي قوامه: إعطاء «القضاء» أفضلية - لا منطقية - في جعله ممنوعا من «الشك». واقع الحال، هو التجارب السياسية العربية أمنت «القضاء» لصالح السلطات التنفيذية سواء بتبعية القضاء لها أو احتكارها المطلق له، ثم انبرت تلزم السلطات التشريعية باحترام القضاء، فالنيل من القضاء - الذي هو صنيعتها - هو نيل من الديمقراطية! الأخطر من ذلك، هو أن السلطات التشريعية قبلت بذلك في أكثر من نموذج.
النصوص الدستورية الدولية تقتضي استقلالية القضاء لقيام دولة القانون، ورهنت احترامه ومنع الشك فيه بضمان استقلاليته. هذه الاستقلالية تمتد إلى مستوى تعيين القضاة، وضمان حصانتهم، وبما يشمل «النظام المالي والإداري الخاص بالترقية والنقل والتأديب، وقواعد الحياد في مواجهة الخصوم، وعدم تحصين أي عمل من أعمال سلطة الدولة من رقابة القضاء. وعدم التدخل في عمل القضاء، وضمان احترام حجية الأحكام وتنفيذها».
المحصلة النهائية والصورة المتخيلة عن القضاء «العربي» اليوم لا تزيد عما تنتجه السينما المصرية خصوصا من صورة القاضي «المرتشي»، أضف إلى ذلك ثنائية التشكيك القضائي في شتى نماذج الدولة. لم يكن قضاء صدام حسين نزيها، ولم يكن القضاء الذي حاكم صدام حسين نزيها كذلك. دعاوى الفساد القضائي وخصوصا فيما يتعلق بالقضايا السياسية وحقوق المرأة تحتاج منا إلى إعادة الاعتبار لفضيلة «الشك» في القضاء والقضاة ومجمل النظام القضائي. ويظهر هذا التشكيك في القضاء بوصفه هنا آلية رئيسية في الوصول لدولة القانون والعدل والمواساة، إذ إن إقامة أي نظام ديمقراطي تعددي مفصول السلطات في أي نموذج دون ضمان نزاهة القضاء واستقلاليته هو مجرد تلاعب بالقانون والمجتمع معا.
تقر شتى القوانين في الدول العربية بأن المساس أو التشكيك بنزاهة القضاء مخالفة «يعاقب عليها القانون». ولابد من إقرار اشتغال سياسي جاد لتقويض مثل هذه الصناعات المزيفة لحماة العدل «الوهميين»، بما يشمل تفكيك وإعادة تنظيم المؤسسات القضائية وفق مقتضيات الحكم الرشيد. خلاف هذا الحراك والتفكيك والشك علينا أن نكتفي بالإقرار بأننا لم ننجز حتى اليوم قضاء «عادلا»، وفوق النقد. وعليه، يكون الشك في القضاء فضيلة يحث عليها التطلع الشرعي والقانوني للحكم الرشيد والحرية والمساواة بين الناس كافة.
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1587 - الثلثاء 09 يناير 2007م الموافق 19 ذي الحجة 1427هـ