تعبّر المطابقة عن حال تلازم بين الموقف السياسي (موالاة أو معارضة)، وجماعات محددة على أساس طائفي أو عرقي أو أيديولوجي أو طبقي. وبهذا المعنى فإنه يمكن التأريخ لسيرة المطابقات في البحرين ابتداء من الخمسينات. وأما احتجاجات وتحركات العشرينات والثلاثينات والأربعينات فيصدق عليها وصف فؤاد خوري بأنها «تحركات عفوية فجائية» خالية من أي تنظيم سياسي جماعي طائفي أو أيديولوجي أو طبقي. وهذا هو شأن إضراب طلاب المدارس في العام 1928 و1930، وانتفاضة الغواصين في العام 1932، واحتجاجات الشيعة في العام 1934/1935، والمظاهرات العامة في العام 1938، والإضرابات المتكررة لعمال «بابكو» في العام 1942 و1948. فكل هذه التحركات، بتعبير فؤاد خوري «تحركات عفوية خالية من التنظيم ووحدة الهدف». وبتعبيرنا فإن هذه التحركات العفوية والفجائية ما كانت لتسمح بتشكيل أي مطابقة بين الأيديولوجيا/ الطبقة/ الطائفة من جهة، وبين الموقف السياسي من جهة أخرى.
وأسهم التعليم المختلط وانخراط الجميع، سنة وشيعة، في مواقع عمل مشتركة، في تأجيل نشوء المطابقة بين الطائفة والموقف السياسي؛ وذلك لأن تطور التعليم «قرّب بين الطائفتين، حيث أوجد قاعدة مشتركة للتفاهم المتبادل بين مثقفيهم» (البحرين: مشكلات التغيير السياسي والاجتماعي، ص 59). وفي السياق ذاته، كان العمل في حقول النفط «وضع أفراد المجتمعين السني والشيعي لأول مرة في مجالات عمل على قدم المساواة في الحقوق والواجبات» (ص 59).
وعلى رغم الطابع العفوي والفجائي في هذه التحركات فإنها قامت بدور تاريخي كبير في تأجيل نشوء المطابقة بين الطائفة والموقف السياسي. وحين نأتي على هذه المطابقة الأخيرة فينبغي أن نذكّر بأن هذه المطابقة إنما تصدّرت المشهد العام في البلاد منذ أواخر السبعينات، وجاءت كمطابقة كبرى وبديلة لتحل محل مطابقة كانت في طور التقهقر والتراجع آنذاك بين الأيديولوجيا (الشيوعيين وقوى اليسار والقوميين/ الدينيين والمحافظين) من جهة، والموقف السياسي من جهة أخرى. وحتى هذه المطابقة الأخيرة إنما جاءت بعد تضعضع المطابقة التي تشكلت في أوائل الخمسينات بين التيارات القومية والمعارضة من جهة، والتيارات الدينية والموالاة من جهة أخرى. وكانت هيئة الاتحاد الوطني هي العنوان الأبرز على هذه المطابقة، ولهذا كان الحادث القاصم لظهر هذه المطابقة حادث قومي بامتياز وهو العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، وهو العام الذي ضعفت فيه قدرة الهيئة على السيطرة على التحركات الشعبية الواسعة، فقبض على قادتها، فسجن من سجن، ونفي من نفي، وانتهى هذا العام بحل هيئة الاتحاد الوطني. لقد كانت تحركات الخمسينات نقطة تحول في العمل السياسي الجماعي والمنظّم، وهي كذلك بداية التأسيس الحقيقي لتاريخ المطابقات في البلاد، فقد كانت التحركات جماعية ومنظمة وشاملة انخرط فيها الجميع من طلاب وعمال ورجال دين وموظفين سنة وشيعة. وكان الاتجاه القومي هو العمود الفقري للمعارضة، ولهذا السبب كان الانتماء القومي «الوطني» حاسما في تلك الفترة، وكان هو الانتماء المعتبر والذي يتغلّب على الانتماء الطائفي. وهناك حادثان يؤكدان هذا الكلام، الأول حادث جرى في بيئة شيعية، والثاني حادث جرى في بيئة سنية، وكلا الحادثين يؤكدان أن الانتماء القومي المعارض كان يتغلّب على الانتماءات الطائفية ذات الطابع المحافظ أو السياسي الموالي. وفيما يتعلق بالموقف الأول يذكر الشيخ إبراهيم المبارك في كتابه «حاضر البحرين» حادثا جرى للقاضي الشيعي الشيخ محمد علي بن الحاج علي بن حميدان إبان صعود هيئة الاتحاد الوطني في العام 1954، إذ كان هذا الشيخ يرتقي المنبر الحسيني ويقرأ في اليوم الثامن من ربيع الثاني 1374هـ، فأطال في القراءة «فنهره بعض الناس قائلا إن الناس في وجل وانتظار أخبار شعبية (يقصد أخبار الهيئة) فما هذه الإطالة؟ فقال الشيخ وكأنه إلهام قدسي وفيض إلهي: إني أطلت القراءة لأنها آخر مقام أعزي فيه رسول الله (ص) بابنته فاطمة (ع)، وضجرت نفسه بما تجرأوا عليه في ذلك المجلس، ومات فجأة بعد نزوله من المنبر وقته ذلك في مسجد الشيخ خميس من المنامة» (ص 71). وعلى صعيد آخر، كان تيار الهيئة ينظر إلى جماعة الإخوان المسلمين السنية على أنها عميلة للإنجليز وللسلطة الحاكمة ضد المعارضة السياسية في الخمسينات، ولهذا لم تشارك الجماعة في التحركات الشعبية التي تزعمتها الهيئة، بل اتخذت الجماعة موقفا سلبيا منها. ولهذا تعرض مقر نادي الإصلاح في المحرق لهجمات المتظاهرين خلال التحرك الشعبي في منتصف الخمسينات، وقام أنصار الهيئة بسكب البنزين على مبنى نادي الإصلاح في محاولة لحرقه. ونحن هنا أمام موقفين متقاربين في الدلالة، فكلاهما يكشف أن المعارضين في الخمسينات كانوا سنة وشيعة، وكانت المطابقة قائمة آنذاك بين الاتجاه القومي والمعارضة. وبسبب هذه المطابقة تمكّن الناس من التحرر من التزامات انتمائهم الطائفي، بل تمكنوا من تجاوز هذه الالتزامات إلى درجة أن يقوم نفر من الشيعة بالتجرؤ على نهر قاضٍ وعالم دين وخطيب حسيني يقرأ في مناسبة شيعية حزينة (ذكرى وفاة فاطمة الزهراء) على الإطالة بسبب أن الناس تنتظر أخبار الهيئة. وفي موقف أكثر جرأة يقوم نفر من السنة بالهجوم على مقر جماعة الإخوان المسلمين بسبب موقفهم السلبي من تحركات الهيئة.
ثم حُلت الهيئة، وخرجت من رحمها قوى أخرى أسست مطابقاتها الخاصة. وقد بقيت المعارضة كموقف سياسي ثابتة في مواقعها، إلاّ أنه جرى شحن هذه المواقع بانتماء جديد جاء كبديل استوعب الانتماء القومي وتجاوزه في الوقت ذاته، وهذا ما فعلته قوى اليسار في البحرين. وقد كان من الشائع في الستينات والسبعينات أن ينظر إلى قوى اليسار على أنها قوى المعارضة التقدمية، فيما كان ينظر إلى رجال الدين ورجال القبائل على أنهم ممثلو الموالاة والمحافظة. وفي تلك الفترة كان وصف شخص بأنه شيوعي يعني أنه معارض ومناهض لنظام الحكم، وقد كانت الحكومة تتعامل مع الشيوعيين على أنهم معارضون بالقوة أو بالفعل، في السر أو في العلن. وحاولت الحكومة ضرب التحالف التكتيكي الذي قام بين كتلة الشعب (اليسار والقوميين والبعثيين) والكتلة الدينية (الإسلام السياسي الشيعي الذي كان حديث النشأة آنذاك) ضد قانون أمن الدولة في العام 1975، وحاولت الحكومة ذلك من خلال «استدراج الكتلة الدينية إلى جانبها على أساس أن قانون أمن الدولة موجه ضد اليسار الملحد المتمثل بالأحزاب التي تعمل بالسر» (القبيلة والدولة في البحرين، ص 353). وهذا يؤكد أن الحكومة كانت تقيم المطابقة آنذاك بين اليسار والمعارضة، أي بين الأيديولوجيا والموقف السياسي، وليس بين الطائفة والموقف السياسي. ويذكر أن هذه المطابقة كانت تحكم تصوّر الحكومة وتصنيفها لقوى المعارضة، وفي الوقت ذاته كانت تحكم التصور الشعبي بصورة عامة آنذاك، فقد كانت كتلة الشعب تتمتع بتأييد شعبي متنوع من مختلف الطوائف والمذاهب، وقد سمح هذا التأييد المتنوع بفوز المحامي خالد الذوادي - وهو سني من أعضاء كتلة الشعب - في انتخابات العام 1973 في دائرة ذات غالبية شيعية (منطقة رأس الرمان وما جاورها)، فيما تمكن المحامي محسن مرهون - وهو شيعي من أعضاء كتلة الشعب - من الفوز في الانتخابات ذاتها في دائرة ذات غالبية سنية (منطقة القضيبية وما جاورها)، ما يعني أن المطابقة بين الطائفة والموقف السياسي لم تكن هي الحاكمة لا لتصور الحكومة ولا لتصور الناس وظنونهم العامة. أما التيار الديني فإنه ما كان ليعترف آنذاك بأي مطابقة باستثناء المطابقة بين اليسار والمروق الديني والانحلال الأخلاقي! إلا أن هذه المطابقة تعرّضت للتقويض في أواخر السبعينات، وقد دخلت الحكومة آنذاك في تحالف غير معلن (وربما كان غير مقصود) مع التيار الديني من أجل كسر شوكة الشيوعيين وقوى اليسار، ويمكن اعتبار حادث اغتيال الشهيد عبدالله المدني - وهو من أعضاء الكتلة الدينية الناشطين في البرلمان، ورئيس ومؤسس مجلة «المواقف» الأسبوعية - في نوفمبر/ تشرين الثاني 1976 بمثابة الحادث المفصلي الذي قصم ظهر اليسار (الجبهة الشعبية على وجه الخصوص)، بحيث لم تقم لقواه بعد هذا الحادث قائمة، وجرى الانقضاض عليه بقسوة رسمية ودينية متناغمة، فمُزق في البلاد، فتلاقفت السجون والمنافي كل من يشتبه في انتمائه الأيديولوجي إلى الجبهة. وبهذه الضربة الموجعة التي تلقتها قوى اليسار تقوّضت تلك القوة التي تقيم العمود الفقري للمطابقة بين الأيديولوجيا والموقف السياسي، وفي أعقاب هذا التقويض صارت الأرض ممهّدة لانبثاق مطابقة بديلة كانت أشد تماسكا من سابقتها، وسيكتب لهذه المطابقة أن تعمر طويلا، وأن تُعمَّد بدم مراق لم ينزف مثله في كل تاريخ البحرين الحديث، وبقتل وتنكيل ونفي وسجن وتعذيب ومطاردة شكلت بمجموعها أضخم إرشيف دموي في تاريخ «دولة الرعب» الحديثة في البلاد. هذه المطابقة هي المطابقة بين الطائفة والموقف السياسي، إذ صار ينظر إلى كل شيعي على أنه معارض بالفطرة، ولكل سني على أنه موالٍ بالفطرة. وما كان لهذا أن يكون إلا من خلال عملية تنضيد مقصودة لمحتويات الذاكرة، وإعادة توجيه مغرضة لكامل الذاكرة الجماعية المعروضة رسميا. وللحديث صلة في الأسبوع المقبل لاستكشاف ما نتج عن هذه المطابقة الخطرة من عواقب وخيمة طبعت «مزاج» مختلف الأطراف (الحكومة، الشيعة، السنة) بطابع مَرَضي مخيف. وأزعم أن هذه «الأمزجة» المريضة هي العقبة الكبرى أمام أي عملية إصلاح سياسي حقيقي في البلاد.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1586 - الإثنين 08 يناير 2007م الموافق 18 ذي الحجة 1427هـ