العدد 1586 - الإثنين 08 يناير 2007م الموافق 18 ذي الحجة 1427هـ

بغداد بين ستالين وراسبوتين

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

أقوال كثيرة تناثرت حول إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين معظمها ذهب إلى النظر في التفاصيل الأخيرة بشأن الحكم وتنفيذه، وهي اللحظة الآنية التي - مع الأسف - استنزفت النقاش لدى قطاع واسع من الناس، وهو في مضمار الانشغال باليسير عن النظر إلى العسير.

العسير، ربما لخصت بعض مفاصله إحدى الفقرات الموجزة التي نقلت حديثا سريعا دار بين أحد منفذي الإعدام، وبين المدان، وقيل إنها سارت كالآتي: «أنت دمرت العراق، وأفقرت الشعب، وجعلتنا جميعا مثل الشحاذين، بينما العراق واحد من أغنى دول العالم، ورد صدام: لم أدمر العراق وحوّلت العراق إلى بلد غني وقوي».

إذا كان ما نقل صحيحا، ولا أجزم بصحته، إلا انه نشر على نطاق واسع من مؤسسة إعلامية مرموقة، قلت إن كان ذلك صحيحا، فهو يلخص بالقليل من الكلمات «مأساة شعب العراق» ليس اليوم فقط، ولكن في المستقبل أيضا. فهو يتركز على ما فعل صدام هل هو خير مطلق أم شر مطلق! من دون الدخول في كبريات القضايا وهي أهم بكثير للمستقبل من ذلك النقاش الفرعي. هناك وجهتا نظر متضادتان إلى حد التصادم في تقييم أعمال وفترة حكم نظام صدام حسين عراقيا، وهذا التضاد الحاد، هو الذي دفع البعض في بعض العواصم العربية إلى «فتح منزل عزاء» بعد إعدام الرئيس السابق، وهي قمة في مأساة «التفكير العربي السياسي» تجد تجلياتها في مظاهر أخرى من الخلاف السياسي الحاد والعدمي، لدى أنظمة وتيارات وأفراد في منطقتنا العربية، يغيب عن نظرها الإنساني، القدرة على الحكم بإنصاف معقول أو نسبي لمجمل نتائج سيرة نظام حكم قهر شعبا كاملا بكثير من الإرهاب الذي تبنته الدولة، وقليل من النتائج الملموسة لقطاع ضخم من الشعب.

علة ذلك أن «تقديس» الزعماء ورفعهم على قاعدة أعلى بكثير من قاعدة البشر تفرط إلى درجة كبيرة القدرة على الحكم المعقول على أعمالهم، وهو تقديس وإن بزّ به صدام حسين آخرين، إلاّ أن جذوته عالقة في الثقافة السياسية العربية، وهو يفوق الاحترام المقبول مؤسسيا إلى «تأليه» يضعه في مصاف المبعوث الإلهي أو الرئيس الضرورة. لا يأتيه الخلل من بين يديه ولا من خلفه. الهتافات التي نقل أنها قيلت في حق مقتدى الصدر إبان مرحلة الإعدام مثال آخر على بداية «التقديس» التي قد تُثمر في وقت ما «زعيما معصوما». ومثلها بالضبط الهتافات التي تقال لزعماء آخرين نراهم بيننا اليوم، لا يحتاج المتابع أن يشير إليهم من أجل تضييق دائرة النقاش لا توسيعها. ذوبان للجمهور «الأعشى» في شكل الزعيم وكلماته وشعاراته، تؤدي عاجلا أو آجلا إلى عمى يقود إلى خراب الأوطان، وتكرر الدرس أكثر من مرة في فضائنا العربي المنكوب من دون أن يفقه أحد الدرس.

صدام حسين كان يمتطي «أيديولوجية» كلامية سحرت الكثير من السذج، من دون برنامج يحقق حدا أدنى من المصالح للناس. فلم يكن العراق في الخمسينات أفقر منه اليوم، ولم يصبح العراق أكثر تعليما مما كان وقتها، وتبدد الحديث الصلف عند البعض أن «الهجمة على العراق» هي لتصفية نخبته المتعلمة!

لقد وضح لكل عاقل أن «النخبة المتعلمة» هجرت العراق طوعا أو كرها، أو دفن بعضها في تراب العراق بعد قتله من دون محاكمة أو شهود! لقد انبهر البعض بالشعارات ولم يتحدثوا أو يراقبوا خواء البرنامج ومحدودية نتائجه، وما كان ذلك بالممكن لا في السابق، واعتقد انه صعب في اللاحق، إذ يتغني الجمهور بالشعار وينام فقيرا جاهلا ومقموعا أيضا. لم يكن العراق في الثمانينات والتسعينات وما بعدها أكثر حرية من الخمسينات. كان باب الحرية يضيق أكثر كلما ارتفعت أغنيات التمجيد وشعارات التحرير، ولم تكن النخبة القليلة الحاكمة في عراق الخمسينات أكثر ثراء هي وأفراد عائلاتها أو أكثر تفردا بمصائر الناس، كما أصبح آل المجيد وآل صدام الذين كانوا يملكون حق «الحياة والموت» على الناس... كل الناس.

مختصر الحديث أن نظام صدام لم يكن يملك برنامجا للعراق، غير إثراء القلة القريبة جدا وإرهاب الكثرة. والتمتّع بشكل مرَضي بالسلطة تحت مظلة شعارات قومية زاعقة، وكان يجد في قلة القلة المتملقة ما يبرر له كل ذلك وأكثر. ويترك لنا «الأدب» العراقي الحديث -إن كان يسمى «أدبا» بالفعل - عشرات من قصائد التعظيم والتهليل إلى درجة «التأليه». كذبوا وصدقوا الكذبة، إلى درجة أن صحافيا لايزال يعيش بيننا كتب الأسبوع الماضي أن طارق عزيز قال له في ذلك الوقت: هل تعرف أن مفكر البعث الحقيقي هو ليس ميشيل عفلق، بل هو صدام حسين! طبعا على سذاجة ما كتب وألّف ميشيل عفلق نفسه! ويمكن أن تُدبَج كتب مستقلة وموثقة على ذلك التأليه الذي قامت به مجموعة ممن امتلكت ناصية الكلم، خوفا أو تزلفا، ولاقت في كل ذلك نفسا بشرية ضعيفة ومهزومة من الداخل، هي نفسية صدام حسين الذي شقّ طريقه إلى السلطة «بالفتونة» و «التصفية».

معن بشور الذي لا يشك في «إخلاصه» لنظام صدام حسين، كونه أحد المتهمين من متسلمي كوبونات النفط، يصرّح في «إيلاف» الأسبوع الماضي، أن صدام قال له: «أريد أن أموت شهيدا»! قالها الأخير ولم يكن المستمع يفقه أن الفكرة ذاتها دليل على عميق شعور لدى الرجل انه لن يموت في فراشه جراء ما ارتكب من آثام، وما كان بناء تلك الأبهة المؤلهة إلاّ من أجل شخص لا من أجل وطن، شخص لم يكن يمتلك برنامجا لوطنه. دليل آخر على انتفاء البرنامج، فبعد كل هذا التاريخ من القمع عاد من جديد المجتمع العراقي إلى مكوّناته حتى قبل الدولة، مكونات عرقية ومذهبية ومناطقية، لم يكن يملك الحكم السابق عدا الاحتفاظ بالسلطة، لا الرغبة ولا القدرة، على تذويب هذه المكونات، بل في السنوات الأخيرة عمل عن قصد مسبق على إنعاشها.

تحرير فلسطين ومقاومة «إسرائيل» وبناء مجتمع حديث، وإشاعة العلم الحديث، ومحاربة أميركا... جلها إن لم يكن كلها شعارات للاستهلاك المقدّم إلى جماهير غير قادرة على التفكير الصحيح لأنها سلبت منذ زمن القدرة على ذلك، إما ترغيبا للقلة أو ترهيبا للكثرة، أو من خلال بناء منظومة فكرية تتسلط على عقول الجماهير وتستنهض أحط غرائزها، ولو لم يكن ذلك لما فتحت بيوت العزاء، بدلا من أن تفتح منتديات النقاش لدراسة معمقة تتساءل: ماذا حدث ولماذا حدث؟

المؤسف أن الصورة داخل الإطار بعد شنق صدام حسين هي التي اختلفت، أما الإطار نفسه فمازال فكريا كما هو، يحوي صورا أخرى، وتُستغَل عواطف الجماهير ويُغيَّب عقلها.

الدرس الأعمق من كل ما تقدم أن «الشعارات» تغطي في منطقتنا كل الرذائل، وفقدان برنامج البناء الحقيقي الذي ينفع الناس، البديل لطريق التنمية الشاق والطويل هو إطلاق شعارات فضفاضة، وتصدير رموز، منها ظواهر تضخيم الصور المعلقة في الشوارع، ولا أكثر منها صور صدام في طرق وشوارع العراق التي اختفت لتظهر صور أخرى مختلفة في الشكل متساوية في المضمون. وكلما شاهدنا في عواصمنا تلك الصور قدرنا هشاشة النظام الذي رفعها.

الدرس الآخر هو أن الشعارات تستقطب البسطاء لتتبنى حكما قهريا يقود بعد ذلك إلى ما أراد صدام حسين أن يقوم به، وهو ترك «أسرة» من صلبه تحكم «ضيعة» العراق التي لم يرثها! سُذج أو بسطاء أو مغرّر بهم من يحسبون صدام حسين على «طائفة»، فهو كان فوق الطائفة وأعدم أعداؤه أو من يحتمل أن يكونوا أعداءه كان ما كانت ملتهم، وبصرف النظر إلى ما ارتكبوه من ذنب! النكتة على القائد المؤله كانت تعني الشنق. وفي الفضاء العربي أشكال متنوعة من «الصدامية» الاختلاف فقط في الدرجة وليس في النوع.

مع الأسف لم تطرح بجد وعمق مناقشة «الدروس الحقيقية» من مقتل شبيه ستالين العربي، الأمر الذي قد يؤسس إلى أشباه راسبوتين. عرب الأول اصطفى شعارات القومية وآخرون يصطفون شعارات الدين.

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1586 - الإثنين 08 يناير 2007م الموافق 18 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً