توقفنا في حدود أصل كرامة الإنسان في القرآن الكريم، ونستكمل في هذه الحلقة الأصل الثاني، وهو توحيد الله تعالى، يقرر القرآن الكريم مبدأ يعده أصلَ الأصول في معارفه التي تدور جميعها حوله، وهو (التوحيد) ويتفرع عنه عدد من الأصول الأخرى. ونعني بـ (التوحيد): أولا: أن الخالق لهذا الكون بكل ما فيه ومن فيه هو الله عز اسمه، فهو يقرر حقيقة أنه سبحانه خلق السماوات والأرض بما يستوجب حمده، وبما لا يسمح إطلاقا بالتمرد عليه، قال تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» (الأنعام: 1).
ولن يتنكر لهذه الحقيقة غير المتمردين على المنطق الموضوعي وحقائق الكون التي لا يغفل عنها الباحثون عن الحق والحقيقة، وهم الذين يصِلُون بالتأمل والتفكر إلى أن الله سبحانه ليس هو الخالق فحسب، بل إن فعله (الخلق) نابع من الحكمة والمصلحة، قال تعالى: «خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَة لِلْمُؤْمِنِينَ» (العنكبوت: 44).
أما غير المؤمنين وأولئك المتمردون المتبعون لشهواتهم التي تسافلت بهم عن مقام الإنسانية السامي فإنهم يكابرون ويكذبون «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ» (النمل: 14)، أيّا كانت الآيات بينة والدلائل لائحة «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» (العنكبوت: 61).
ولعل السر في ذاك التكذيب وتلك المكابرة من هؤلاء - كما يفيده منطق القرآن وإشاراته - أنهم يفتقدون العلم والبصيرة «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (الأنعام: 39). فهم، بسوء سلوكهم وخبث نياتهم، يَضلُّون الطريق ويَطمسون معالم النور في فِطَرهم وعمق أنفسهم، حتى يصبحوا عميا عن إدراك آيات بحجم السماوات والأرض، قال تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ» (الروم: 22).
وهذا الأصل، أعني الخالقية، لا يتنكر له أحد، وإن اختلف هؤلاء وأولئك في من هو الخالق «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ» (الطور: 35)، ولذلك يجبههم القرآن بآيوية الواقع ومخلوقيته، بغير شك، من قِبَل الله سبحانه، فقد بان الصبح لذي عينين، ولقد أبصر من استبصر، فقال عز من قائل: «هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (لقمان: 11).
ثم إن القرآن يقرر أن خالقية الله هذه جاءت على الوجه المناسب لجلاله وجماله، فقال تعالى: «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» (السجدة: 7) وأن لا ثغرات في خلقه وفعله «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ» (الملك: 3).
مقتضيات الخالقية: يقرر، إلى ذلك، أن لهذه الخالقية مقتضياتٍ ولوازمَ، منها العبودية من قبل المخلوق والربوبية لله وحده لا شريك له، قال تعالى: «ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» (الأنعام: 102). ولا يجوز أن يُجعل له الندُّ والشريكُ، ولو قيل بذلك فليس إلا وهما لا واقع موضوعي له، قال تعالى: «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ» (فصلت: 9)، وقال تعالى: «هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ « (لقمان: 11)، وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» (فاطر: 3).
ثانيا: أن الله سبحانه هو المالك لكل شيء: وهذه نتيجة منطقية للحقيقة السابقة، فإن الخالق، بالمعنى القرآني، أعني الإيجاد من العدم بنحو مستقل، هو المالك، ومن ثم يثار تساؤل استنكاري عن هذه الحقيقة بقوله تعالى: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» (البقرة: 107).
مالكية الله تعالى: وفي آية أخرى تضيف إلى مالكية الله للملك المادي ملكَ السلطنة والسياسة...، فقال تعالى: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (آل عمران: 26).
ولم يُستثن من هذه الحقيقة الوجودية ومن مقتضى هذا الأصل أحدٌ من الناس ولا أمةٌ من الأمم، قال تعالى: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» (المائدة: 18).
ثالثا: أن الله سبحانه العالم بكل شيء: فقال تعالى في الربط بين الخلق والملك والعلم: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» (الأنعام: 73).
مما يترتب عليه رفع حس المسئولية إلى أعلى مستوياته، فيما يرتبط بتنظيم العلاقة بين المخلوق والخالق، حيث لا يستثنى عمل من رقابته، ولا يسوغ التقصير في سره وعلانيته، فقال عز من قائل: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (التوبة: 105)، وقال تعالى: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ» (الرعد: 9).
ولأنه العالم بلا جهل، ولأنه الذي لا يخفى عليه شيء «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ» (الحاقة: 18)، ليس من الصواب ولا من الجائز أن يجعل له الشريك، وفي ذلك جاء قوله سبحانه: «عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» (المؤمنون: 92).
بل إن القرآن يقرر أن الربوبية تتوقف على العلم الذي يتيسر معه إيصال النفع وإلحاق الضرر بالآخر، قال تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ» (يونس: 18).
رابعا: أن الله تعالى المتصرف في كل شيء: فالولاية، وليست هي في المقام إلا التصرف، له وحده، قال تعالى: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير» (البقرة: 107).
وولايته هذه تشمل الصالحين فتزيدهم صلاحا، والظالمين فتلحقهم بأعمالهم، قال تعالى: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (البقرة: 257).
وليس لأحد غير الله، حيث له الولاية المطلقة، أن يتصرف، أو يدعي أن له حق التصرف في مخلوق من مخلوقات الله دون أن يفوض إليه ذلك، قال تعالى: «قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدا» (الكهف: 26)
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حسن النمر"العدد 1582 - الخميس 04 يناير 2007م الموافق 14 ذي الحجة 1427هـ