العدد 1579 - الإثنين 01 يناير 2007م الموافق 11 ذي الحجة 1427هـ

أمة فـي حال مَرَضية

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

أرجو ألا يقرأ أحد هذا العنوان وكأنه «حال مُرضية» بمعنى الرضا والقبول، فالمقصود «مَرَضية»، فكما هي الأفراد تمرض بأمراض مختلفة، فإن الأمة التي ننتمي إليها في حال «مَرَضية»، تدخلها في بداية القرن الحادي والعشرين مثقلة بأعراضها، من دون أن نتعرف على وجه اليقين على العقار الشافي.

ولنا في بعض عناوين الكتب العربية التي صدرت حديثا ما يؤشر إلى تلك الحال المرضية، واعدّدُ بعضها، فهي تعلن «العرب بين الرشادة والتيه»، و «الحلم والكابوس»، و «خريف العرب»، و «في الخلاص النهائي»، إلى آخره من مثل هذه العناوين التي تشير إلى تلك الحال المرضية المزمنة وتزخر بها المكتبة العربية الحديثة تبحث بجد عن العقار الشافي.

في بغداد، إعدام صدام حسين شنقا وبعض رجال ناصروه في أسوأ فترة حكم تاريخية في العراق، والعراق ليس بشاف من أمراضه. وفي بيروت، تتقلص المسافة بين الجنوب وبيروت، فتنتقل المواجهة من الحدود الجنوبية إلى ساحة رياض الصلح في قلب بيروت، وهي مواجهة تتجاهل تحديات المعركة الأساس لتنتقل إلى معركة بين أهل الوطن الواحد.

في الصومال، يتقاتل الفرقاء لسنوات طويلة ليس على الكلأ والماء، بل على من يحضر الأفلام الهندية! وفي فلسطين، يذهب الضحايا ممن لا وطن لهم برصاص ضحايا آخرين لا وطن لهم، ويسابق الجميع الريح في التشدد مع الإخوة والتساهل مع الأعداء!

هذه بعض ظواهر لهذا المرض الخبيث الذي يبدو ظاهرا في أماكن أشرنا إليها، وباطنا في أماكن أخرى غائبة تحت السطح، من هذا الوطن الكبير المترامي الأطراف.

إذا كان لنا أن نجتهد في توصيف المرض فلننعته بـ «الصدامية»، وهي حال ليست لها علاقة بالفرد أو الأفراد، بل حال ذهنية تبدأ في فكر الإنسان العربي السياسي، وتأخذ أشكالا مختلفة من الصراع العبثي المزري بالأوطان، تشتد وتضعف ولكن جوهرها واحد.

هذه الحال لها مظاهر وهي أولا احتكار معرفة الحقيقة والقول الفصل في القضايا الوطنية، فالقوى التي تتزعم المعارك السياسية منحازة إلى الفوضى والقتل والتصفية باتجاه احتكار «الحكم» و «الحقيقة»، تمهيدا لتقديس الفرد وإضافة هالة من الرشادة السياسية الإلهية إن أمكن على ذلك الحاكم أو الزعيم، مقصية الشركاء في الوطن، وتُطعم تلك الأفكار إلى تلك الجماعات الفقيرة والمحرومة، على أنها الخلاص مما يعانونه من عوز وتخلف. وهي في الحقيقة بعيدة عن خلاصهم، لأنها لا تزيد من فقرهم وعوزهم فقط، بافتعال المعارك واستنزاف الاقتصاد وتفتقد إلى الآلية الحديثة لتسيير الدولة، بل وأيضا بسلبهم أفضل ما لدى الإنسان وهو القدرة على التفكير الحر، أي خفض قدرتهم على التفكير المستقل، وهو أغلى ما يمكن أن يفقده الإنسان في عصرنا الذي نعيش. والأمثلة كثيرة لا تكاد تحصى، فأين جماهير صدام حسين الذي ما ان يخرج على قومه بزينته حتى تلتهب الحناجر بالهتاف الرديء: «بالروح بالدم»، أو أمثاله مما نعرف في تاريخنا الحديث، الذي نكاد نسمعه أو نسمع أمثاله في بيروت هذه الأيام، ويتردد في عواصم أخرى.

وثاني المظاهر هو الصلافة في التخاطب بين الفرقاء المختلفين إلى حد الفجور في الخصومة، ونذكر الجميع كيف كان يخاطب إعلام صدام حسين خصومه في فترات مختلفة بالحديث عن «المجوس» وإخراج أمة كاملة ومذهب من المذاهب الإسلامية من حوزة الإسلام السمح، كما كان يخاطب المختلفين معه في السياسة بالإشارة إليهم بـ «عرب اللسان»، وكأن العروبة هي محض ملك له، يهبها من يريد. مثل هذا الفجور نسمعه في التخاطب اليوم يأتينا من بيروت بالحديث إشارة للشركاء في الوطن بـ «القتلة»، أو «المحكمة الدولية تحت حذائي»، أو أن البطرك وهو رجل دين فاضل وقور قد «تهيج»! بسبب زيارة النساء. مثل هذه الألفاظ والنعوت تدغدغ فقط عواطف الجهلة وتحط من القائل أمام محكمة العقل.

أما ثالث الظواهر فهو احتكار الوطنية وإخراج المخالفين السياسيين منها، وهي تهمة سادت إبان سيطرة الوعي الأحادي، ومازالت بضاعة رائجة إلى يومنا هذا، وهي احتكار يرى فيه البعض نفسه فقط الوطني المخلص والباقي عبارة عن تُبع مأجورين يؤمرون فيطيعوا من «قوى خارجية» من دون تحديد تلك القوى على وجه الدقة، ومن دون أي سند عقلي. أما ما زاد الطين بلة، فان الاحتكار يذهب إلى «العقيدة» فيصبح المخالف كافرا، ويزدهر بين كُتاب الأمة اليوم الحديث عن الكفر والكفار وعن «النواصب» و «الروافض»! كناية عن انقسام حاد مغلف بجهل مرضي مزمن.

ما أشير إليه عن «الصدّامية» ليس بالضرورة حال يعتنقها صدام حسين ومن معه، ولكنها حال عامة تتجاهل الواقع العالمي، كما تتجاهل رغبات الناس أو الأكثرية ومصالحهم المرسلة، ففي الوقت الذي يشهد العالم انكماشا في الحكم الدكتاتوري والحكومات العسكرية والحكم الاشتراكي القمعي، وأنظمة رجال الدين، وإذ تتأكد وتنتشر مقولة لا تحرير من دون حرية، ولا انعتاق مع سيطرة وتقديس لزعامات، أفرادا أو أحزابا، ولا مساواة من دون تكافؤ فرص، ولا يتحقق العدل من دون مواطنة، ولا نهضة من دون تنوير، ولا حرية وطن من دون تحقيق واحترام المصالح لكل قطاعات الشعب. ترغب «الصدامية» المتجدّدة مع تغير تلاوينها، في إبقاء الحال المرضية لشعوب هذه الأمة في حالها المرضية المزرية.

وتقول حكمة صينية إن أفضل الحروب هي أن تهزم جيش عدوك من دون قتال، ولا أفضل من هزيمة تزرع المرض في جسم الأمة بتعطيل عقلها في التساؤل والمناقشة، والأهم تكريس القدسية للزعامات التي لا سبيل للخروج من القرون الوسطى إلاّ بنقدها، تحاشيا لتكرار ما يحدث في العراق أو ربما في فلسطين أو لبنان.

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1579 - الإثنين 01 يناير 2007م الموافق 11 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً