العدد 1576 - الجمعة 29 ديسمبر 2006م الموافق 08 ذي الحجة 1427هـ

الأمية في الولايات المتحدة!

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يتوهم الكثير منا بأن الأمية، شأنها شأن الأمراض الأخرى كمرض السل والملاريا، باتت من أمراض الدول النامية، ولم يعد يسمع عنها في الدول المتقدمة. لكن الإحصاءات تشير إلى عكس ذلك تماما. فإحصاءات بريطانيا تؤكد ارتفاع نسبة المصابين بمرض السل في مدينة لندن بنسبة 5 في المئة خلال العام 2005. اما الأمية فتتحدث الأرقام الأميركية عن تفشيها بنسبة تصل إلى 19 في المئة في صفوف السكان، وأن هناك ما يربو على 40 مليون أميركي ممن لا يحسنون الكتابة أو القراءة، بشكل أو بآخر.

وتتحدث ثلاثة تقارير مستقلة نشرها موقع «تقرير واشنطن» (http://www.taqrir.org) عن مشكلات التعليم في أميركا عموما، وأزمة الأمية على نحو خاص.

تشير الإحصاءات الخاصة بمعدل القراءة والكتابة في الولايات المتحدة - كما وردت في تقرير واشنطن - أن هناك نحو 19 في المئة من البالغين في الولايات المتحدة إما أنهم لا يعرفون القراءة والكتابة مطلقا، واما أنهم لا يمتلكون مهاراتها الأساسية أو القدرة على التوقيع ومعرفة الأرقام واستخدامها في عمل معادلة حسابية بسيطة جدا. يوجد جزء كبير من هؤلاء في المناطق الحضرية، يتوزعون بين الذكور السود بالأساس داخل الفئة العمرية الأربعينات والخمسينات، كما يعانون في معظمهم من البطالة أو عدم القدرة على العمل، وانخفاض الدخول، أو العمل في وظائف وأعمال غير ماهرة مثل العمل في المطاعم أو غسيل الملابس في المستشفيات أو غيرها من الأعمال التي لا تتطلب أية أعمال كتابية.

وقد وضعت الولايات المتحدة الكثير من البرامج، وعلى نحو مواز لها المؤسسات، من أجل القضاء على الأمية أو الحد من انتشارها. فهناك على سبيل المثال لا الحصر «مجلس واشنطن لتعليم القراءة والكتابة» Washington Literacy Council، وهو مؤسسة غير هادفة للربح. تأسس المجلس بهدف مساعدة البالغين الذين يعانون من الأمية، في العام 1963 على يد الإرسالي السابق فرانك لوباك Frank Laupack، والذي قضى فترة مهمة من حياته في باكستان، شاهد خلالها المعاناة التي يمر به الأميون هناك. وعندما عاد لوباك إلى الولايات المتحدة قرر الاستفادة من تلك الخبرة من خلال تأسيس هذا المجلس. وكما تقول إليزابيث ليبتاك Elisabeth Liptak، المديرة التنفيذية للمجلس، قامت فكرة المجلس والبرنامج على أن «يقوم الأفراد الذين يجيدون القراءة والكتابة بتعليم آخرين لا يجيدونها».

ويحاول المجلس ان يكون نوعيا في مستوى الخدمات التي يقدمها، ولذلك نراه يحاول ألا يتجاوز عدد المتقدمين لدورة الواحدة 170 شخصا. وعلى رغم صعوبة تقدير إجمالي عدد خريجي المجلس منذ تأسيسه إلا إن عدد هؤلاء الخريجين خلال الأربعين عاما الأخيرة تجاوز عدة آلاف. ويقدر عدد الساعات التي يحصل عليها الملتحق بالبرنامج نحو 250 ساعة للوصول إلى مستوى يكفي للالتحاق ببرنامج GED التمهيدي GED-preparatory program. وهو ما يتطلب - من وجهة نظر نيكول وإليزابيث - زيادة عدد الساعات الأسبوعية التي يجب أن يقضيها الدارسون لاستكمال عمليات التدريب بشكل أسرع قبل ارتباطهم بأية التزامات أخرى.

ومن أجل ضمان أفضل النتائج، حرصا على نفسية المشاركين في البرنامج، وتحاشيل لأية حالات إحباط محتملة، يقوم التعليم داخل المجلس على نظام «معلم لكل طالب»، بشكل يضمن درجة كبيرة من التفاعل بين الطالب والمعلم، ويضمن أيضا خلق روح الجماعة داخل المجلس وبين الطلاب. وتقول إليزابيث: «عندما يأتي الطالب إلى المجلس لأول مرة يعتقد أنه غبي وأنه الوحيد الذي لا يعرف القراءة والكتابة في المدينة وأنه لابد أن يكون متخلفا عقليا، ولكنه عندما يندمج في البرنامج ويتعرف بأشخاص آخرين سرعان ما يدرك أنه ليس الوحيد» الذي لا يعرف القراءة والكتابة.

ويعتمد المجلس الذي يقوم بتقديم خدماته بالمجان، على فكرة العمل التطوعي، إذ لا يتجاوز عدد العاملين بأجر خمسة أفراد فقط، مقابل وجود نحو 200 متطوع. كما لا يتلقى أية مساعدات أو تمويل رسمي من الحكومة الفيدرالية أو حكومات الولايات، حيث يعتمد على الهبات والتبرعات والمنح بشكل رئيسي. وقد اتجه المجلس في الفترة الأخيرة إلى تحصيل رسوم تسجيل رمزية من الملتحقين بالبرنامج ولكنها تظل رمزية من ناحية، وغير إجبارية من ناحية أخرى، غالبا ما يصر الملتحقين أنفسهم على دفعها كمساهمة رمزية.

ولوعدنا إلى تعريف الأمية، فسوف نجد أن تعريف الأمم المتحدة لها بأنها - أمية - تعني عدم القدرة على قراءة أو كتابة جملة بسيطة بأي لغة. وبناء على هذا التعريف وطبقا لإحصاء أممي صدر عام 1998، فإن 16% من سكان العالم أميون أي لايعرفون قراءة أو كتابة جملة بسيطة. وبناء على دراسة أعدها المركز القومي للإحصاءات التعليمية National Center for Education Statistics العام 2003، فإن 14 في المئة من المواطنين الأميركيين البالغين لا يجيدون القراءة والكتابة. وأن ما يزيد عن نصف تلك النسبة لم تحصل على شهادة الثانوية العامة. أعلى نسبة أمية تقع بين أبناء الجالية اللاتينية أو الهيسبانك 39 في المئة من أجمالي عدد الأميين في الولايات المتحدة، بينما نسبة الأمية بين البيض لم تشهد زيادة أو نقصان طوال العقدين الأخريين وهي 37 في المئة من إجمالي عدد الأميين، لكن هذا الرقم صغير بسبب بلوغ نسبة البيض العالية بين سكان الولايات المتحدة، إذ تبلغ ما يقرب من 75 في المئة من إجمالي سكان الولايات المتحدة. بينما قلت نسبة الأمية بين السود خلال العقد الأخير إلى 20 في المئة من أجمالي عدد الأميين.

وتذهب دراسات قامت بها منظمات أميركية موثوق في صدقيتها مثل دراسة خدمات الاختبارات التعليمية Educational Testing Service أن الأمية في الولايات المتحدة تزداد بين الطبقات الفقيرة وداخل مناطق جفرافية بعينها وبين جماعات عرقية دون الأخرى. فهناك ما يربو على 50 في المئة من المواطنين الذين يحصلون على منح الإعانة المعيشية Welfare هم أميون. كما أن 75 في المئة من العاطلين عن العمل لا يجيدون القراءة والكتابة. كذلك فإن نسبة أبناء من ليس لديهم عمل والذين يتوقفون عن مواصلة التعليم في مراحل مبكرة من الدراسة تبلغ خمسة أضعاف الأطفال العاديين.

تجدر الإشارة هنا إلى أن أضرار الأمية في الولايات المتحدة تتجاوز حياة الفرد لتؤثر سلبا على حياة المجتمع، فهناك 60 في المئة من المساجين الأمريكيين أميون. وطبقا لإحصاء مجلة نيشنز بيزنس Nation’s Business فإن المجتمع الأمريكي يعاني من وجود 15 مليون أمي عاطل عن العمل، الأمر الذي يكلف اقتصاد الدولة مئات الملايين من الدولارات سنويا.

ولعل إدراك المؤسسات التعليمية لأضرار الأمية على المجتمع وسعيها لمجابهة هذا التحدي هو الذي دفع الكونغرس العام 1991 إلى تشريع قانون لمحو الأمية أطلق عليه قانون القدرة على القراءة والكتابة القومي National Literacy Act وأنشأ معهدا لمحو الأمية وزيادة قدرة الأميركيين على اتقان مهارات الكتابة والقراءة. كما تقوم معظم المكتبات العامة بتنفيذ برامج فصلية لتأهيل الأميين وتعليم الانجليزية للمهاجرين الجدد. ومن أقدم وأشهر البرامج لمحو الأمية برنامج المتطوعين لمحو الأمية في أميركا Literacy Volunteers of America الذي أهل وساعد 350 ألف شخص على التخلص من الأمية منذ تأسيسه العام 1962.

وعند مقارنة الولايات المتحدة بسواها من الدول المتقدمة مثل الدول الأوروبية سنجد أن نسبة الأمية في الولايات المتحدة عالية نسبيا، ويرجع السبب في ذلك إلى أسباب تاريخية وجغرافية وثقافية، فالولايات المتحدة منذ تأسيسها وهي مجتمع مهاجرين ذوي خلفيات وثقافات مختلفة. كما أن عدم السماح لشريحة كبيرة من الأميركيين بالتعليم أثناء عقود العبودية ، واستمرار الهجرة بأعداد كبير من غير المتعلمين من أميركا اللاتينية، والاتساع الجغرافي للولايات وانتشار مهن يدوية وحرفية في الريف والمناطق الصناعية كانت من أسباب زيادة نسبة الأمية في أميركا عنها في بقية الدول الغربية. وتشير الاحصاءات الرسمية الصادرة عن مكتب الإحصاء الأميركي منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن أن المجتمع الأميركي أن نسب الأمية في الولايات المتحدة قد شهدت تباينا واختلافا كبيرا من فترة تاريخية إلى فترة أخرى بما يعكس حالة النهضة أو التراجع الذي شهدته تلك الفترات. ففي أواخر القرن التاسع عشر كانت الأمية شائعة بصورة كبيرة في كافة أنحاء الولايات المتحدة وبلغت نسبتها العام 1870، 20 في المئة من إجمالي عدد السكان، بيينما قلت بصورة ملحوظة في العقد الثالث من القرن العشرين لتصبح 4 في المئة فقط، وعلى رغم هذا التحسن العام إلا إن نسبة الأمية بين السود في آوائل القرن العشرين بلغت نسبة 44 في المئة.

الولايات المتحدة، والتي تسير أقوى اقتصاديات العالم المعاصر، وتدير أفضل جامعاته، وتمتلك اقوى جيوشه، لا تتردد في الإفصاح عن مشكلات بدائية مثل محو الأمية، بل تحولها إلى مشكلة عامة يساهم في حلها أكبر عدد ممكن من مؤسسات المجتمع المدني. لعل هذا هو السر في نجاح الولايات المتحدة في التصدي لمشكلاتها التي لا أحد يستطيع أن ينكر أنها كثيرة ومعقدة، وذلك يلقي الضوء على فشل من يحاول أن يخفي تلك الأمراض، ويرى في الإفصاح عنها خشية أمور ليس لها وجود إلا في عقولهم المريضة?

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 1576 - الجمعة 29 ديسمبر 2006م الموافق 08 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً