ما يعانيه التيار الوطني الديمقراطي في مجتمعنا من أزمة له أسبابه الموضوعية النابعة من ظروف الواقع المحيط بالتيار وتأثيراته عليه، وله أسبابه الذاتية النابعة من مكونات التيار ومن ظروفه الداخلية. أول الأسباب الموضوعية للأزمة هو موقف السلطة الرسمية القامع للتيار على مدى الثلاثة عقود الماضية. السلطة الرسمية نظرت دوماً إلى قوى التيار وتنظيماته وأفراده نظرة الشك والريبة، ولم تسعَ إلى التعرف على ما جرى من تغيير في رؤاه وبرامجه السياسية. ولم تُعنَ بالوقوف على حقيقة الدور الإيجابي الذي كان بإمكانه أن يؤديه في مسيرة تطور المجتمع وتحديثه وتحوله - لو شاءت - إلى المسار الديمقراطي. على العكس تعرّض التيار لتركيز ضربات متتالية أضعف قواه وشل قدراته. فما أن يرفع رأسه بعد ضربة موجعة حتى تليها ضربة أخرى أكثر وجعاً، تليها ضربة قاضية. هكذا تعددت الأساليب في قمع التيار وتنقلت في ضربه من تنظيم إلى آخر. وجراء ذلك يمكننا الجزم بأن المعتقلات البحرينية ظلّت عامرة بمعتقلي التيار طوال نصف قرن وأكثر، استشهد خلالها من استشهد وعُذّب من عُذّب ومرض من مرض.
وقد أوضحنا في مقال سابق أن ارتباط مسمى التيار بتلازم الوطنية والديمقراطية، هو الكفيل والضامن لتوجهات المجتمع نحو التنمية الشاملة والمستدامة بشكل سليم يحقق التقدم الدائم ومواكبة الركب الحضاري لأمم الأرض. وعلى ذلك فالتيار برؤاه وخطه السياسي يشكل ضمانة أساسية لأي إصلاح ديمقراطي في المجتمع، وبالتالي فهو دعامة أساسية لتطور المشروع الإصلاحي ومضيّه قدماً إلى الأمام. على رغم ذلك لم ترشح أية مؤشرات تُظهر سعي السلطة الرسمية إلى توظيف هذه الخاصية لصالح المشروع الإصلاحي، ولم يبرز توجّه لعقد أي نوع من التحالف مع قوى التيار. وذلك يؤكد أن السلطة الرسمية إما أنها لم تقدّر دور التيار في بناء وترسيخ الديمقراطية، أو أنها اكتفت بجرعة مقننة مرسومة مسبقاً من الديمقراطية، أو هي تجده تياراً مشتتاً مفرّقًا غير مؤثر فلا تعيره اهتمامها. وقد كانت الانتخابات النيابية الأخيرة شاهداً على تجاهله، وعلى التوجه نحو التحالف مع قوى أخرى، ما أسهم في عدم تمكن التيار من إيصال أي من ممثليه إلى عضوية المجلس النيابي.
من جانب آخر، فالتيار الوطني الديمقراطي عاش منذ أن تأسست قواه السياسية وضعاً مزدوجاً فرضته ظروف العمل السري بين الداخل والخارج. وهو وضعٌ قسّم التيار قسمين في الخارج وفي الداخل، مع ما جرّه ذلك من تبعات التشتت وعدم وضوح الصورة لكل طرف عن الطرف الآخر. وأفضى إما إلى ازدواجية القرار أو إلى سوء تقدير الأوضاع عن بعد ومجانبة الصواب عند تحديد الأهداف ووضع الخطط والبرامج.
وفوق ذلك فقد جرى - على مدى عقود - تشويه لفكر التيار وهويته برميه ظلماً بتهم التحريض على الكفر ومحاربة الدين. ففي إطار الحرب الباردة التي كانت دائرة بين القطبين العالميين، وبتصنيف قوى اليسار السياسي في كل العالم كقوى حليفة للقطب السوفياتي، وقف عديد من الأنظمة السياسية العربية والخليجية المتحالفة مع القطب الأميركي ضد التنظيمات اليسارية في مجتمعاتها. وأُلصقت بالتنظيمات المذكورة تهم التآمر والكفر، وقُمع التيار وحُورب شر حرب. وزاد الأمر سوءًا مطلع الثمانينات الماضية، حينما غذى الأميركان استراتيجية الجهاد ضد الوجود السوفياتي في أفغانستان. وتناغماً مع التوجه الأميركي، تم خليجياً إبراز دور التنظيمات الإسلامية الأصولية ودعمها مالياً ولوجستياً، فيما سمي بالجهاد الإسلامي. وبدوره نشط الإسلام الأصولي في محاربة قوى التيار الوطني الديمقراطي لتتحقق بذلك تضافر الجهود الرسمية وغير الرسمية في محاربة التيار على شتى الصُعد.
وفي حين ظل التيار الوطني الديمقراطي فقير الموارد محدود الإمكانات المالية اللازمة لتفعيل دوره في المجتمع وبين الناس، كانت ومازالت أجنحة الإسلام السياسي تتحصل على كم هائل من الدعم المالي من مصادر متعددة، أهمها القوى والمؤسسات الإسلامية المدعومة من قبل أنظمة وشخصيات غنية، ومن مصادر تحصيل المال ذات الطابع الديني (الزكاة والخمس). لذلك ليس بمستغرب أن يكون الاقتدار المالي واحداً من الأسباب المهمة في تمكن تيارات الإسلام السياسي من امتلاك ناصية الشارع والتأثير فيه.
وعلى المستوى الذاتي، لم يزل التيار يجتر خصوماته البينية القديمة التي ما انفكت تقف حجر عثرة أمام أي محاولة للتقارب ونبذ الفُرقة والتشرذم. وحال الخصومة هذه تتغذى على استمرار سطوة رموز التيار التاريخيين الذين بذروا روح الخصومة وورّثوا الأجيال التالية مفرداتها التي مارستها بأكثر الأشكال والأساليب تطرفاً. وأمام حال مستعصية كهذه ضاعت وتضيع هباء كل المحاولات المخلصة التي بُذلت وتُبذل لإصلاح ذات البين داخل التيار.
ويزيد الطين بلةً غلبة الطابع المركزي والانفراد بالقرار على قيادات التيار بما لا يتناسب مع الطبيعة العلنية والشفافة للعمل السياسي الذي تمارسه تنظيماته في المرحلة الراهنة. وتقل إلى حد الندرة اللقاءات العامة والمفتوحة التي يناقش فيها كل الأعضاء البرامج والخطط والمواقف. وإن وُجدت فبطريقة أو بأخرى لا يؤخذ في نهاية الأمر إلاّ بالرأي الذي ترتئيه القيادات. ولا تقف تنظيمات التيار وهيئاتها القيادية وقفات نقد ذاتي حقيقي تحدّد فيها جوانب القصور لتتجاوز في ضوئها الأخطاء وتُحسّن من الأداء.
ومما يعاب على التيار تهيبه طرح ذاته كما هو فكراً وسلوكاً وقناعات، فلم يزل التيار يعيش تحت تأثير الحرب التي شُنت ومازالت تُشن ضده واصفة إياه بتيار الكفر والإلحاد. وعلى رغم ما حملته رياح التغيير في رؤى وتوجهات التيار، فإنه لم يزل أسير تخوفه من تلك الحملات. ذلك ما جعل بعض أعضاء جمعياته يترشحون في الانتخابات بشكل مستقل عن اسم جمعياتهم، وجعل البعض الآخر - خلال فترة الحملات الانتخابية خصوصاً - يأتون بمسلك حياتي لا يتناسب مع قناعاتهم أو أسلوبهم المعتاد في الحياة.
ما يعانيه التيار ليس يعني تخطيئه أو تحجيمه، فهو لم يزل يعبّر عن قطاع واسع في المجتمع له حق الوجود والفاعلية. التيار الوطني الديمقراطي ضرورة في مجتمع تعدّدي كمجتمعنا، ليحقق التوازن المطلوب وليضبط إيقاع العملية الديمقراطية في المجتمع. وعلى المخلصين العمل الحثيث من أجل أن يكون التيار رقماً صعباً في المعادلة السياسية في المجتمع?
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1572 - الإثنين 25 ديسمبر 2006م الموافق 04 ذي الحجة 1427هـ