عندما قاطعت كتلة الوفاق الجلسة الافتتاحية والجلسة الإجرائية التي كان من المتوقع فيها توزيع المناصب الرئيسة للمجلس النيابي للدورة الثانية، حاول البعض عبثاً أن يصوّر الهدف الأساسي من مقاطعة الوفاق كونها لا تملك غالبية الأصوات وبالتالي صعوبة تحقيق حلمها وحصولها على رئاسة المجلس. وأظن أن هذا التأويل لا يستحق أصلا الدخول فيه، لأنه باختصار شديد هدف رخيص لا يستحق التقاتل عليه، بل أن الوفاق كانت ستدعم الظهراني لرئاسة المجلس وستتجه للنائب الأول للمجلس، ولكن الأجواء كلها تلبدت بالغيوم وأفرزت حالاً من الاحباطات السياسية، ناتجة من تحركات جهات رسمية أثارت حفيظة الوفاق، وبينت حقيقة رغبة البعض في ترسيخ أعراف إقصائية، العقلاء في غنى عنها، من أجل إصلاحات سياسية حقيقية تصبّ في صالح الوطن والمواطن. وهناك حقائق تستحق من المراقب والمتابع السياسي التوقف عندها والوقوف على حيثياتها بدرجة أكبر، وفيما يأتي سأطرح بعضاً منها من زاويتي الخاصة، وللقارئ أن يحكم على مدى موضوعيتها من عدمها.
إن المناصب الرئاسية لم تكن يوماً ذات بال طويل للوفاق، وإلاّ ما الذي سيمنع الوفاق من الإفصاح عنها والعمل على تحقيقها بل والبوح بها؟ فهل هي جريمة تخشى أن تحاسب عليها؟ وإذا كانت كذلك فما الذي دعاها للبوح بها في اللحظات الأخيرة؟ وهل هناك ما كان يضطر الوفاق لإخفاء ما تطمح إليه؟ ألم تكن هناك جهات قد تسببت في إحداث توترات واحتقانات زادت من وتيرتها ما أدى إلى تمسك الوفاق بالرئاسة لرغبتها في إدارة المجلس التشريعي بدلاً من بقائها تحت رحمة الإدارة في التشريع، وصولاً إلى إحراجها مع قواعدها الجماهيرية؟ أما مسألة الوصول إلى المناصب بأي شكل فهي تعد أهدافاً واضحة ومعلنة لبعض الكتل النيابية والتيارات المشاركة بالانتخابات، وباتت هذه الصفة ملازمة لها، بدليل رغبتها الجامحة في تبوء المناصب مهما كان الثمن والظروف. وبات واضحاً للعيان كيف تم تقاسم الكعكة والظروف التي كان يعيشها الشارع البحريني وهو يودّع أحد رموزه، فتوزيع المناصب والنتائج التي آلت إليها لم تكن مفاجئة لأحد، ولكن المفاجأة أنه كيف لهم أن يقدموا على خطوة كهذه بلا استثناءات؟
مقاطعة الوفاق للجلسة الافتتاحية كما عبرت عنها الوفاق لم تقصد بها جلالة الملك، فالوفاق تقدّر جهوده الوطنية المخلصة للم الصف ووحدته، ولكن الرسالة كانت بهدف الاحتجاج على مشروع الإقصاء والتهميش، وإن لم يتحقق الهدف فقد أثارته مقابل السكوت والصمت التي أرادته الحكومة أن يكون مصير الحدث الذي هز مشاعر الرأي العام ولايزال الموضوع عالقاً على رغم أهميته، لأنه يتحدد في ضوئه الكثير من الخطوات الوطنية.
لو كانت المناصب هدفاً للوفاق لكانت هناك خيارات عدة للمفاوضات والمساومات السياسية وليس خياراً واحداً فقط تحمله وتدافع عنه، ولنجحت في ذلك لكونها تمثل الكتلة الأكبر في المجلس، ولكن الدليل على أنها تحمل أهدافاً غير التي يتحدث عنها خصومها، فقد آثرت على نفسها تقلد المناصب الشكلية مقابل فضح الحقائق أمام الشارع فجاء التفاوض فقط على رئاسة المجلس، وكانت القوى السياسية حينها على المحك، فقد كان مطلب الوفاق مسبباً بشكل لا يسمح للتلاعب والاستغفال الذي يشوه المواقف والمطالب ويختزلها بشكل ضيق لا يعبر عن وجهة النظر الأصلية. كما أن الشارع الوفاقي يساند كتلته ويدافع عنها، فهو من أوصلها إلى البرلمان لتدافع عنه، فلا مجال هنا إلى تحريضه عليها لكونها لم تحسن التصرف في مقاطعتها لجلسة توزيع المناصب، وغير مستعدة لأن تضع يدها في يد من قراراهم في يد غيرهم، وينتظرون الإملاءات الخارجية ليعلنوا عن آرائهم كالببغاوات. كما أن المبالغة لا تفيد شيئاً في العمل السياسي، أيضاً الاستخفاف بالأمور له النتائج نفسها، فكما هو معروف عالمياً، من حق الكتلة الأكبر النصيب الأكبر من كعكة المناصب الرئيسية، ولها أن تصر على الرئاسة أو تتنازل عنه لغيرها من الكتل وفق توافقات سياسية معينة، ولكن للأسف الشديد خانت الحكومة الحكمة، فالكتلة الأكبر هذه المرة هي المعارضة، فليس من الديمقراطية بمكان أن يتم تسليمها التشريع برمته وتقف هكذا مكتوفة الأيدي، فكان ما كان من تدخلات فاضحة واضحة، وإملاءات بلغت أوجها، لا بغرض إبعاد المعارضة من الرئاسة فقط بل بغرض إقصائها وتهميشها في المجلس. فليس من المعقول أن تقبل المعارضة التي تمثل الكتلة الأكبر أن تكون صفراً على الشمال في كل جوانب العملية السياسية وأبعادها،على رغم أنها وافقت على الدخول في العملية السياسية كطرف فاعل ومؤثر، وقدمت ما قدمت من تضحيات وانتقلت من مرحلة المقاطعة إلى المشاركة بلا ثمن يذكر، وساهمت في رفع نسبة المشاركة إلى 73 في المئة. وكما هو معروف أن الحكومات الإصلاحية لابد أن تضحي لإقناع المعارضة بالمشاركة، لكن ما حصل لدينا مختلف تماماً، فلم تكن هناك أية تنازلات تذكر لصالح المعارضة بل العكس هو الصحيح. فقبلت المعارضة أن تتحول من المقاطعة إلى المشاركة على رغم علمها التام بعدم عدالة الدوائر الانتخابية، وعلى رغم محدودية الصلاحيات المناطة بالمجلس، وعلى رغم كون مجلس الشورى شريكاً في التشريع والرقابة. ومع ذلك كانت تأمل خيراً بأن يكون النسيج الوطني ينسجم مع ما تفرزه العملية الانتخابية والإرادة الشعبية أو يعوض النقص الحاصل في تركيبة المجلس النيابي، ما حصل كان صدمة كبيرة إذ خلا المجلس المعين من وجود المعارضة واقتصر فقط على الموالاة، كما تحكمت في أعداد الموالين في المجلس المنتخب بشكل يحمي مصالح الحكومة. كل ذلك كان بهدف تحويل الكتلة الأكبر إلى أقلية داخل المجلس ومحاصرتها، وبذلك تضمن مشاركة المعارضة كزخم إعلامي كبير ولكن من دون حراك فاعل يضر أهدافها.
وما زاد الطين بلة، التشكيلة الوزارية التي لم تكن جديدة، وما احتوته من تعيين لوزراء تأزيم متورطين بقضايا لا تزال مطروحة في أروقة القضاء، وتعيين آخرين في المجلس المعين يواجهون تهماً مشابهة، ضاربين بعرض الحائط مشاعر وسخط الشارع، فكانت مقاطعة الوفاق للجلسة بمثابة احتجاج على السياسات التي تحاك في السر، حتى لا تكون نهجاً يجب عليها القبول به. وكان الثمن التي دفعته غالياً جداً، لدرجة أن البعض استغل ذلك فرصة للمزايدة على الوفاق وعلى مواقفها وعلى حسمها للأمور والقرارات التي تخرج عنها.
فالوفاق قبل أن تبت في أي موضوع ترجع دائماً إلى قواعدها الجماهيرية، وإلى قيادات الرأي للمشورة والنصح، ولا تتعصب أو تتصلب في مواقفها، إلاّ إذا كان ناتجاً عن قناعة مجمع عليها. فليس هناك من يقرّر عن الوفاق أو يرسم لها المواقف والآراء كما يظن البعض أو كما يفعل البعض الآخر. فقرار الوفاق في يد الوفاق، وتظل تتمسك به إذا لم تنتف الأسباب التي قاطعت من أجلها. فهل الوفاق قررت المشاركة في الانتخابات النيابية من أجل صورة المجلس النيابي لتوافق أن يكون دورها شكلياً خاوياً؟
لو كان كذلك لقبلت بمنصب الرئيس الأول وغيره من مناصب، ولما قاطعت المجلس، ولكنها أصرت أن تعلن عن موقفها وتصرّ عليه ليكون نهج الوفاق ردة فعل لسياسات الإقصاء وخطط التهميش الفاضحة?
إقرأ أيضا لـ "سكينة العكري"العدد 1571 - الأحد 24 ديسمبر 2006م الموافق 03 ذي الحجة 1427هـ