العدد 1568 - الخميس 21 ديسمبر 2006م الموافق 30 ذي القعدة 1427هـ

بدايات نشوء «النخبة الشامية»

بلاد الشام تدخل عصر دول الطوائف (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تشكلت في مطلع القرن السابع عشر البدايات الأولى لنمو شريحة من الطبقة الوسطى في جبل لبنان، وأخذت هذه القشرة من المثقفين تتطور في وعيها وعلاقاتها. إلا أن نفوذ «النخبة» ووعيها لم يكن موحداً بسبب انشطار شرائحها السياسية والثقافية على مجموعات أهلية كانت تتغذى من تلك الاستقطابات الدولية والإقليمية التي كانت تتعرض لها المنطقة العربية منذ أن قرر نابليون بونابرت نقل مواجهاته مع أوروبا من القارة إلى الشرق. فخلال تلك الحملة التي قادها على مصر انتقل الصراع الدولي إلى «الشرق الأوسط» وانكشفت المنطقة على نقاط ضعف شكلت ثغرات سياسية نجحت الدول الكبرى في استغلالها لاحقاً لاختراق الحصن العثماني من الداخل.

أدت هذه التدخلات الخارجية إلى توتير العلاقات بين المجموعات الأهلية التي كانت تتشكل منها منطقة بلاد الشام. وفي ضوء ارتفاع نسبة التوتر ارتسمت بين المجموعات تلك الحدود السياسية الفاصلة التي أسهمت في تفجير صراعات طائفية ومذهبية ألحقت الدمار والخراب في الكثير من مناطق الشام. فالتدخل الأجنبي ساعد على تطوير الخلافات الأهلية ونقلها من موقعها المحلي إلى طور من الصراع الدولي/ الإقليمي. وبسبب اختلاف أنواع الصراعات الدولية والاستقطابات الإقليمية تنوعت تحالفات المجموعات الأهلية المحلية وتلونت بحسب توازنات القوى وانشداد هذا الفريق لتلك الكتلة مقابل انحياز الفريق الآخر للكتلة المضادة.

هذا الأمر أسهم في تدويل الصراع المحلي وأعطاه صورة سياسية مخالفة للمألوف. فالصورة لم تعد محلية بقدر ما أخذت تعكس كالمرآة تلك التجاذبات الدولية والإقليمية في المنطقة، إذ كانت المجموعات الأهلية ترتب تحالفاتها وفق مصالحها المحلية وعلى قياس طموحات أو حاجات القوى الإقليمية والدولية. وبدأ هذا الشكل الجديد يأخذ مداه الدولي حين قرر نابليون الانتقال بحملته من مصر واحتلال بلاد الشام في العام 1798.

آنذاك شكل والي عكا أحمد باشا (المعروف بالجزار) رأس حربة السلطنة لمواجهة غزو الفرنجة وحصلت مواجهات عنيفة بين الجيشين نجح نابليون في بدايتها في تسجيل مكاسب عسكرية في غزة ويافا وصولاً إلى عكا. وعلى أسوار المدينة توقف زحف بونابرت وحصلت مناوشات ومعارك كر وفر فشل فيها الجيش الفرنسي في اقتحام عكا.

في هذه الفترة حاول نابليون الاتصال بأمراء جبل لبنان ومشايخ الطوائف والمذاهب لمساعدته. وتردد بعض أمراء الحرب والمناطق في تقديم العون (بشير الشهابي) بينما تحمس بعضهم للأمر حين اكتشف أن الجيش الفرنسي تقدم عسكرياً وبدأ يقترب من عمق الشام. إلا أن انهيار قوات بونابرت واضطراره لفك الحصار والانسحاب من فلسطين رفع من شعبية والي عكا (أحمد باشا) وأعطاه فرصة للانتقام من خصومه وأولئك الأمراء الذين ساعدوا الحملة الفرنسية.

كانت هذه بداية مشكلة جديدة خلطت أوراق القوى من جديد. وفي ضوء تداعياتها أعيد ترتيب التحالفات وتنظيمها وفق حسابات محلية أشرف والي عكا على إدارتها. الجديد في الموضوع هو ارتفاع حدة التوتر الأهلي الذي انقسم بين فريق موالٍ وآخر «خائن» أو «متعامل» مع أجنبي. هذه المصطلحات كانت وافدة على سياسة ترسيم حدود العلاقات المحلية بين الطوائف والمذاهب وشكلت لاحقاً نقطة ضغط على المجموعات الأهلية ومصالحها وتحالفاتها. وهذا ما نجح بشير الشهابي في تجييره لمصلحته حين كرس زعامته على الجبل التي امتدت من 1785 إلى 1840.

توفي والي عكا (أحمد باشا) في العام 1804 /1805 وهي السنة التي بدأ فيها الوالي العثماني محمد علي إدارة شئون ولاية مصر. ونجح الباشا في تشكيل نواة دولة مصرية مستقلة أعطته قدرة للتعامل مع السلطنة العثمانية من موقع الند. فالسلطنة بداية كانت بحاجة إليه وهو كذلك. وحين اكتشف نقاط ضعفها اتجه نحو الاستقلال عنها ثم طور هجومه عليها من خلال إرسال ابنه إبراهيم باشا في حملة عسكرية على بلاد الشام بدأت طلائعها في العام 1830.

خلال حملة إبراهيم باشا تكرر السيناريو نفسه الذي حصل في فترة حملة بونابرت على بلاد الشام. فالجنرال الفرنسي تورط في المراهنة على المجموعات الأهلية وحاول أيضاً توريط أمراء المناطق والطوائف في مساعدته كذلك فعل إبراهيم باشا في حملته حين تورط في مراهناته وتورطت معه مجموعات طائفية وحاربته مجموعات أخرى لحسابات محلية والسبب الدافع لها اشتداد المنافسات على الزعامة والسلطة.

إلا أن الفارق الزمني بين الحملتين واختلاف أهدافهما أعطى تلك المجموعات الأهلية (الطائفية/ المذهبية) فرصة زمنية للمناورة وتبديل التحالفات. فالحملة المصرية دعمتها الدول الأوروبية في بدايتها بقصد إضعاف السلطنة العثمانية وإنهاك قواها في منطقة تتصف بالتوتر الدائم. هذا في بداية الحملة. وحين لاحظت الدول الأوروبية أن هناك «دولة حديثة» بدأت تتشكل في مصر والمشرق العربي وأخذت تتقدم وتمد نفوذها في فلسطين وجبل لبنان ودمشق وحلب وصولاً إلى الأناضول تغيرت المواقف وتبدلت التحالفات وتحديداً بعد أن سجلت القوات المصرية سلسلة انتصارات عسكرية في قونية (1832) ثم نصيبين (1839). فهذه التحولات الميدانية أنتجت استراتيجية دولية مخالفة للبداية فلجأت الدول الأوروبية إلى الضغط على مصر ومساعدة السلطنة مقابل شروط قاسية. وبفضل تبدل التحالفات اضطر إبراهيم باشا إلى سحب قواته من بلاد الشام في العام 1840 وعاودت السلطنة إشرافها على المنطقة تحت رقابة دولية.

هذا التطور الدولي نجح في عزل مصر عن تركيا ووضع بلاد الشام تحت خط النار والتوتر الدائم الذي تمثل آنذاك في سلسلة انتقامات طائفية بين الدروز والموارنة، وبين الزعامتين الجنبلاطية والشهابية. فالأمير الشهابي نجح سابقاً في استخدام علاقاته مع والي عكا (أحمد باشا) لتثبيت سلطته ثم الحد من قوة منافسه بشير جنبلاط إذ انتقم منه مستخدماً علاقاته مع والي عكا الجديد (عبدالله باشا) الذي نفذ حكم الإعدام فيه في العام 1825. فأمراء الدروز ولحسابات محلية وبسبب تنافس الزعامة الجنبلاطية وخلافها مع سلطة بشير الشهابي وقفوا مع العثمانيين إبان الحملة المصرية بينما أيد مشايخ الموارنة وبشير الشهابي حملة إبراهيم باشا. وبسبب هذا الانقسام المحلي الذي اخذ فجأة أبعاده الإقليمية والدولية عزز بشير الشهابي سلطته وكسر الزعيم الجنبلاطي. وحين خرج إبراهيم باشا من الشام تعززت سلطة حلفاء السلطنة العثمانية التي عاد نفوذها الى جبل لبنان فعادت المجموعات الأهلية إلى الاصطدام في ضوء تحالفات دولية وإقليمية مختلفة عن السابق. وتترجمت هذه الخصومات المحلية في سلسلة انتقامات سياسية أخذت طابع المواجهات الدموية الطائفية العنيفة بين الدروز والموارنة، فوقفت بريطانيا آنذاك مع الدروز بينما أيدت فرنسا الموارنة. وفي ظل هذا الصراع الأهلي تدولت الخلافات المحلية ونجح الأمراء الدروز في استعادة نفوذهم مقابل إقدام بريطانيا على نفي الشهابي إلى مالطا في العام 1840?

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1568 - الخميس 21 ديسمبر 2006م الموافق 30 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً