لقيتك المرة الأولى في منزل «عمي»، جالساً تتحدث بصوتك المتعب الذي أرهقته السنون والأسر والبعد عن الأحبة. يقف في الخارج «قوم» ما قدروك حق قدرك ومنعوا دخولي بادئ الأمر لولا «الترجّي». محاصراً كنت في مجلسنا كما كنت في بيتك. يا أبا جميل... كل البيوت «بيتك». رحمى لقلبك، يستريح الآن هادئاً في تراب قريتك وفي قلوب محبيك.
سألتني يومها عن هويتي؟ وحين أخبرتك بنسبي، لازلت أتذكر ابتسامتك، وكلامك الكريم عن والدي. قلت لي يومها إنك تحبه، إنه صديقك. أسعدني حديثك عنه إلى ذلك الحد الذي لم أتذكر فيه أن أسألك عن معاناتك، كان حضورك مهيباً كريماً في «الحياة» كما كان غيابك عنا يوم أمس الأول مهيباً في «الموت».
أمس الأول، تذكّرت والدي. فحين رأيتك - في المرة الثانية - تزور والدي في المشفى قبل وفاته كانت عيناك تنبضان بـ «الحب» وأنت تمسك بيديه. وحين خرجت، بكى والدي وبكيت «أنا» لبكائه، لم أسأله عن مدعاة بكائه إذ بادرني بالقول ساعتها: «إني أحبه».
لكم حاولت أن أتحدّث إليك أيام مرضك، وددت طوال السنوات الماضية لو استطعت أن أخبرك بحب والدي لك، وبأني «أحبك» حبي لوالدي. أشد ما آلمني يوم أمس الأول هو أن والدي لم يكن موجوداً في خضم ذلك الحب الكبير لك. أما الذي خفف ذلك «الثقل» بنفسي فهو أنكما ترقدان في تربة واحدة.
أعلم أن حبي لك الـ «صغير» أمام حب الآلاف التي مشت خلفك تحملك أعناقها وقلوبها لمثواك، هو حب «بسيط» أمام بكاء والدي الذي زُرتَه يومها، ولعمري إن بكاء الرجل الكبير «صعب».
ما أنت تستلب «الحب» في قلوب الناس؟ ما أنت تخلق الأنفاس «حرة» كلها «كرامة» و «عزة»؟ ما أنت مجبول من يراك ألا يستطيع إلا أن يحبك؟ ما أنت أيها الشيخ الجمري الذي يصنع «البكاء» في «النفوس» قبل «الأعين»؟
نم يا والد البحرين قرير العين، لَنشتَاقَن إليك اشتياق الفاقدين، ولنمسكن بقلوبنا، لا تمر على قبرك إلاّ مرور الأعزة الأباة «الصابرين».
يا «والدي» ما هدأت عيناك إلاّ والناس حولك. وما أهالوا التراب عليك، أهالوا قلوبهم تنطق نطق الخرساء المذبوح قلبها. يا والدي بكاك أبناؤك وبناتك من حناجر لطالما هتفت باسمك «بالروح والدم... نفديك يا جمري». يا والدي... إنا فقدناك فقد «الأب»، وإنا لفراقك لمحزونون?
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1566 - الثلثاء 19 ديسمبر 2006م الموافق 28 ذي القعدة 1427هـ