تقول الأديبة والمفكرة الأميركية المعروفة سوزان سونتاغ: «إن التذكر الكثير جداً يُخلف المرارة، وتحقيق السلام يعني النسيان، ولتحقيق المصالحة من الضروري أن تكون الذاكرة ناقصة ومحدودة». أستشهد بقول سونتاغ هذا لأني أتصور أن جزءاً كبيراً من التنازع الطائفي السياسي في البحرين يعود إلى كونه مرتهناً لذاكرة مثقلة بهذا التنازع، وهي ذاكرة حاضرة بقوة وقابلة للاستثارة باستمرار، وهذا يعني أننا أمام حال من «التذكّر الكثير جداً»، الذي يورث الحزن والمرارة، ويعمّق الانقسامات الواقعية و»المتخيلة». إلا أنه ينبغي الاستدراك لتوضيح أن الذاكرة ليست ارشيفاً معطى وقابلاً للنقل بأمانة وموضوعية، بل هي موضوع طيّع إلى أبلغ الحدود وقابل للتحوير والتحويل والاختلاق والتلفيق كأي موضوع يأتينا من الماضي، والماضي ليس قائماً بين أيدينا اليوم لنتحقق من صدق الذاكرة أو زيفها. والسؤال هو: كيف يمكن التعامل مع ذاكرتنا الجماعية المحلية؟ وكيف يمكن توجيه هذه الذاكرة باتجاه المصالحة الوطنية وتعزيز السلام الأهلي وخدمة التعايش المشترك بين الجماعات والطوائف في البحرين؟ أتصور أن أمامنا طريقين لتحقيق هذه الغايات: الأول أن نعمد إلى اختلاق ذاكرة متخففة من النزاعات والصراعات الطائفية. والثاني أن نلتزم بنصيحة سوزان سونتاغ فنعمد، بقصد ومع سبق الإصرار والترصد، إلى النسيان وفقدان الذاكرة الكلي أو الجزئي، وذلك إذا ما كانت هذه الذاكرة مثقلة، فعلاً، بالتنازع والفتن والصراع الطائفي. فهذه ذاكرة ينبغي أن نهديها إلى النسيان غير مأسوف عليها، بل لا سبيل لتحقيق المصالحة إلا من خلال فقدان هذه الذاكرة، أو على الأقل إعادة تأويلها وإعادة توجيهها لتكون في خدمة المصالحة والسلام. وهنا لن أبرئ الذاكرة الجماعية المحلية، ولن أدعي أنها كانت منسجمة وتقوم على الوئام بين الجماعات ونظام الحكم، بل ما أزعمه هنا هو أن الذاكرة تعرّضت إلى إساءة تأويل وإساءة توجيه، وكان من نتيجة هذه الإساءة أن التاريخ المحلي لا يظهر لنا إلا مثقلاً بصراع طائفي بين الجماعات، وبتنازع لا يفتر بين جماعة معينة ونظام الحكم. وتتطلب المسئولية الأخلاقية والوطنية أن نعيد توجيه هذه الذاكرة في اتجاه لا نزعم أنه اتجاهها الحقيقي ومسارها الأصلي، ولكنه الاتجاه الذي يهيئ فسحة ممكنة لتحقيق السلام والتوافق والوئام بين الجماعات. وهو في الوقت ذاته لا يخلو من وجاهة تاريخية، لأني أتصور أن إساءة التوجيه الأولى للذاكرة قد استندت إلى مغالطة تاريخية، وعلى هذه المغالطة تأسس ما يجري تصويره على أنه «حقائق» تاريخية. وقد سمحت هذه «الحقائق» التاريخية المغلوطة لأصحاب هذا التوجيه بعقد المطابقة المزعومة بين الشيعة كمعارضة والسنة كموالاة. ولتقويض هذه المغالطة التاريخية علينا أن نرجع إلى الذاكرة «المفترى عليها»، من أجل أن نعيد توجيهها من جديد. وأذكر هنا بما كان يقوله إدوارد سعيد من أن الاختلاق «هو منهج في استخدام الذاكرة الجمعية بشكل انتقائي من خلال التلاعب بقطع معينة من الماضي القومي، وذلك بطمس بعضها وإبراز بعضها الآخر بأسلوب توظيفي بكل ما في الكلمة من معنى. ومن هنا، ليست الذاكرة بالضرورة ذاكرة أصيلة، بل هي على الأصح، ذاكرة نافعة». بمعنى أن الذاكرة ليست شيئاً ثابتاً وخاملاً يقبع في زمن ماضٍ ويمكن استعادته بكل يسر وأمانة، بل هي شيء يجري استخدامه واستغلاله لخدمة أغراض متعددة. وبهذا المعنى تكون الذاكرة نافعة أو ضارة. والسؤال هو هل بالإمكان استخدام الذاكرة من خلال الاختلاق من أجل تحقيق أغراض إيجابية وإنسانية؟ على المستوى الواقعي فإن هذا ممكن بحكم طبيعة الذاكرة القابلة للاستخدام بأكثر من طريقة، وأما من يبحث عن المشروعية الأخلاقية لمثل هكذا استخدام للذاكرة فإني أذكره بحديث الرسول (ص) الذي يشير إلى أن الكذب يصير ممارسة كلامية جائزة حين يكون لأغراض سلمية وإنسانية، يقول الحديث: «لا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ». وبما أن اختلاق الذاكرة الذي نتحدث عنه هو ضرب من ضروب «الكذب الأبيض» الذي يستهدف «الصلح بين الناس» وإفساح مجال متخيّل يسمح بالتعايش السلمي بينهم فرادى وجماعات، فإنه يصح أن نقول إن هذا اختلاق للذاكرة جائز أخلاقياً ووطنياً. وفي حالتنا فإن اختلاق الحاضر القابل للتعايش مرهون بقدرتنا على تلفيق ذاكرة تكتنز بمحتويات التعايش والتسامح والوفاق. وفي هذا الاتجاه سيكون علينا أن نحفر عميقاً في هذه الذاكرة، وأن نقلّب مكوناتها طبقة طبقة، وأن نذهب بعيداً إلى نبش محتوياتها وهي تتشكل في أشكالها الجنينية الأولية، وتحديداً حين نبدأ الحفر من نقطة البداية المفصلية في التاريخ المحلي أي منذ العام 1783. في هذا سنورد سرداً تاريخياً لما جرى في العام 1783 على أن نعود في مقال الأسبوع المقبل إلى استثمار هذه المعطيات التاريخية من أجل إعادة توجيه هذه الذاكرة المحلية «المفترى عليها». يذكر المؤرخون أن نصر آل مذكور حاكم البحرين آنذاك اضطر إلى أن يزحف بجيشه إلى الزبارة، فتواقع هناك مع آل خليفة، وانتهت المعركة بانكسار نصر آل مذكور، وفر بعد الهزيمة المدوية إلى بوشهر، فظلت البلاد في حال من الفوضى، وكانت، كما يذكر ناصر الخيري ومحمد علي التاجر، منقسمة على نفسها انقساماً عظيماً بين عدة أحزاب، وأعظم هذه الأحزاب اثنان: أهل الشمال وهم أهل جدحفص وفيها نائب الحكومة أو وزيرها وموضع ثقتها السيدمدن ورئيسها السيدماجد الجدحفصي (والخيري يعتبر هذين شخصاً واحداً هو السيدمدن بن السيد ماجد وهو من آل الشيخ). وأهل الجنوب وهم أهل «توبلي» بحسب ناصر الخيري، وأهل البلاد القديم بحسب رواية التاجر، ويرأس هذا الفريق الشيخ أحمد بن رقية (أو بن ارقيا بحسب الخيري).
ويذكر ناصر الخيري أن «المنافسة بين هذين الحزبين عظيمة، إلا أن أهل جدحفص كانوا أقوى سطوة وأكثر ثروة، وأهل الجنوب كانوا أغنياء نوعاً ما إلاّ أنهم ليسوا في القوة المادية والأدبية كمناظريهم، ولذلك كانوا ممتهنين من آل الشيخ (أهل الشمال) وأحزابهم القوية. فلا نكاد نمضي فترة من الوقت إلا ويعظم بينهم الشر ويتفاقم الخطب لدرجة يعجز عنها الشيخ نصر آل مذكور وحكومته الضعيفة، وزاد امتهان آل الشيخ لآل بن ارقيا لما ذهب الشيخ نصر إلى بوشهر»، والسبب أن نصر آل مذكور قد أناب محله في ولاية البلاد السيدمدن بن السيد ماجد، فزاد هذا الأمر من كره آل رقية لآل الشيخ، ونقموا عليهم أعظم نقمة. ويذكر التاجر أن هذين الفريقين ظلا يتشاجران ويتخاصمان على رئاسة البلاد حتى آل بهما المآل إلى أن تضاربا بالسيوف، وتراشقا بالنبال، فقتل بينهم من قتل، وانتهى الأمر بالنصر إلى آل الشيخ من أهل الشمال، فلم يكن من الشيخ أحمد بن رقية إلا الانتقام، فانتدب له رسلاً وأصحبهم بمكاتيب وجهها إلى آل خليفة في الزبارة يدعوهم إلى القدوم إلى البحرين، «ووعدهم بالمساعدة وتسهيل أسباب التملك بكل ما في الإمكان». فجاءت الرسل، وبعد التشاور استجاب الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة لذلك، فجهّز السفن وأعد العدة قاصداً البحرين، فنزلها وانكسر قوم الشيخ ماجد الجدحفصي. واستقر الأمر للشيخ أحمد بن محمد آل خليفة حاكماً على البحرين، ورتّب شئونها على ما أحب، فجعل على المنامة وما جاورها أميراً، وعلى المحرق وما جاورها أميراً، أما هو وعائلته فكانوا يقيمون في البحرين صيفاً، وفي الزبارة شتاء. (قلائد النحرين في تاريخ البحرين، ص225 - 226، وعقد اللآل في تاريخ أوال، ص (104). وسنعود في الأسبوع المقبل لقراءة المدلولات السياسية والاجتماعية التي ينطوي عليها هذا السرد التاريخي، ودور كل هذا في تفكيك المطابقة المزعومة بين الطائفة (سنة/ شيعة) والموقف السياسي (موالاة/ معارضة)?
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1565 - الإثنين 18 ديسمبر 2006م الموافق 27 ذي القعدة 1427هـ