في الربع الأول من العام 2005 أجريت الانتخابات البلدية في المملكة العربية السعودية، ويبدو أن قلقاً كبيراً كان يساور المشرفين على تلك الانتخابات باعتبارها أول انتخابات عامة تجرى في البلاد، فما كان من المستشارين إلاّ أن قدموا لهم تصوراً محبوكاً لا يدع مجالاً للشك أو القلق في نجاح العملية الانتخابية بالشكل والصورة المناسبة.
وهكذا تم صوغ عملية انتخابية يسمح فيها للمواطن بالترشح في مكان إقامته فقط، في حين يسمح للناخب أن يشارك في اختيار كامل أعضاء المجلس البلدي الذي يقع فيه مقر إقامته. ولم يكتف المستشارون بذلك بل إنهم زيادة في الحرص على ضمان نجاح الانتخابات البلدية، قرروا الدعوة لتسجيل الراغبين في المشاركة في الانتخابات، ومنحوهم فترة شهر كامل للتسجيل، وهكذا فإن نتائج الانتخابات كانت قد حسمت سلفاً منذ اليوم الذي أغلقت فيه أبواب تسجيل الناخبين.
ذلك أن حجم الكتلة الانتخابية في كل منطقة صار معروفاً ومحدّد الانتماء والتوجه، وعليه فإن أي تكتل أو تيار سياسي أو اجتماعي أو طائفي أو مذهبي أو حكومي صار يعرف حجمه في الانتخابات مسبقاً، من خلال عدد مناصريه الذين سجلوا في قوائم الناخبين. وهكذا فإن التيار السلفي المنظم جيداً اكتسح الانتخابات بصورة شبه مطلقة، فلقد كان يكفي هذا التيار أن يستحوذ على 25 في المئة من عدد الناخبين في أي منطقة ليضمن كامل المقاعد المخصصة لهذا المجلس أو ذاك.
وكانت الثقة والاطمئنان التام للنتائج تجعل الكثير من المترشحين المحسوبين على التيار السلفي، لا يحتاجون إلى أي دعاية أو مخيمات انتخابية، ولم يشغلوا بالهم بالندوات واللقاءات وتقديم البرامج، اللهم إلاّ من قبيل الإفصاح عن وجودهم في بعض الدوائر التي شهدت نزول مرشحين منافسين من الوزن الثقيل. ومن دون شك فقد جاءت النتائج مطابقة لقوائم تسجيل الناخبين، وهي نتائج نزيهة إلى حد بعيد وفقاً للقوانين والأنظمة التي نظمت الانتخابات - وفقاً لها.
لقد استحضرت هذه التجربة الانتخابية المتميزة، بعد قراءة هادئة لنتائج الانتخابات النيابية والبلدية التي جرت أخيراً في بلادنا الغالية البحرين، ففي حين بذل الكثير من المترشحين المستقلين أو المحسوبين على بعض تيارات المعارضة جهوداً جبارة من أجل الفوز بمقعد نيابي أو بلدي، كان عدد من المترشحين يضع يده في الماء البارد، غير عابئ بالتنافس الذي حُسم قبل أن يبدأ بالنسبة له.
ويبدو أن بعض المترشحين تلقوا تطمينات قاطعة من جهات نافذة بالدخول إلى المجلس مهما كانت الظروف، الأمر الذي جعلهم على غير عجلة من أمرهم، فكانوا يتعاملون مع النتائج كتحصيل حاصل. أحد هؤلاء المرشحين (السوبر) كان يقول لمناصريه استعدوا لاحتفالات النصر منذ الساعة الرابعة عصراً وفي الجولة الأولى، وعلى رغم أن حساباته شابها قليل من الخطأ، إلا أنه ضمن المركز الأول بفارق كبير عن منافسيه، وكذلك ضمن الفوز في الجولة الثانية بأكبر نسبة أصوات تحققت لأي من المترشحين على قائمة جمعيته حتى أولئك الذين فازوا من الجولة الأولى.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن من حق المراقب أن يلاحظ أن وضع نظام الجولة الثانية هو لزيادة الاطمئنان بأن النتائج ستأتي وفقاً لما يريد راسمو السياسة الانتخابية باعتبارها الصمام الأخير لضمان نتائج الانتخابات، فإذا كان توزيع الدوائر الانتخابية قد وضع بشكل يقسم البلاد وفق دوائر (...) تتحكم فيها الجهات المشرفة على الانتخابات وتحدد من خلالها تشكيلة المجلس النيابي ونسب التمثيل فيه، فإن نظام الجولة الثانية لا يترك الدوائر المختلطة عرضة للاجتهادات السياسية والاختيارات الطبيعية، بل يصر على تحويلها إلى انتخابات محاصصة بين الموالاة والمعارضة.
لقد تحدّث كثير من المحللين والعارفين ببواطن الأمور عن أن المعارضة لن تتجاوز عتبة 18 مقعداً في المجلس النيابي والبلدي على حد سواء، وعلى رغم اشتداد التنافس والجهود الكبيرة التي بذلتها الماكينة الانتخابية للمعارضة، وقدرتها على الزج بالكثير من الأصوات لتعديل الكفة، إلاّ أن النتائج لم تتغير، بل إن المعارضة كادت أن تفقد بعضاً من نصيبها في المقاعد التي حسمت لها.
وليست نتائج المعارضة فقط هي ما يبعث على الاستغراب، بل إن نتائج بعض المترشحين المستقلين سواء من كان داخل المجلس السابق أو من خاض التجربة لأول مرة، هؤلاء أيضاً كانت نتائجهم تبعث على الاستغراب، حتى بدا الأمر وكأن المسموح لهم بالدخول إلى المجلس هم عينات محددة سلفاً.
وإذا كان كل هذا الحيف الذي تعرض له مرشحو المعارضة متوقعاً بعد كل ما تم تسريبه من تقارير وتصريحات نارية تفردت بها بعض الشخصيات القريبة من السلطة طوال الأشهر التي سبقت العملية الانتخابية، فإن التعايش مع هذه النتائج على مضض، لا يعطي الناس فرصة لفهم مغزى التعيينات التي تلت الانتخابات في كل من مجلس الوزراء ومجلس الشورى، والتي كان يتوقع أن تتناغم مع نتائج الانتخابات العامة على أقل تقدير. لقد أفرزت الانتخابات العامة الأخيرة فوزاً للمعارضة بنسبة لا تقل عن 45 في المئة من مقاعد مجلس النواب على رغم أن النسبة التي حققتها وسط الكتلة الانتخابية لا تقل عن 62 في المئة، فإذا كانت السلطة غير مستعدة للتعامل مع ثقل المعارضة بالنسبة للناخبين، فلا أقل من أن تتعامل معها وفقاً للنسبة التي حققتها في المجلس النيابي.
إن الحديث عن المشروع الإصلاحي يتطلب ترجمة فعلية على أرض الواقع، لذلك كان حرياً بالسلطة التنفيذية أن تعكس نتائج الانتخابات النيابية في مجلس الشورى ومجلس الوزراء على حد سواء، وهنا فإن إقدام السلطة على رفع نسبة تمثيل المعارضة في مجلس الشورى المعين وإشراكها في السلطة التنفيذية المتمثلة بمجلس الوزراء هو بجميع المقاييس استحقاق طبيعي، تفرضه نتائج الانتخابات العامة.
لقد كان الجميع يتوقع أن تنعكس نتائج الانتخابات العامة مباشرة بشكل إيجابي على التشكيلة الوزارية وعلى الشخصيات المرشحة لمجلس الشورى، ذلك أن الحديث عن مملكة دستورية ودولة القانون والمؤسسات يتطلب ترجمة حقيقية تكرس المشاركة والتوافق والتشاور بين القوى السياسية المعارضة من جهة وبين الحكم من جهة أخرى، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
إن المشروع الإصلاحي بحاجة ماسة إلى دماء جديدة تضخ في شرايينه وعروقه رؤى منفتحة وأفكاراً غير اعتيادية تستطيع ابتكار لغة تفاهم وانسجام أكثر قدرة على التعاطي مع المتغيرات التي تشهدها المنطقة، وأكثر استعداداً للتعاطي مع المفردات والمفاهيم الديمقراطية بما يحقق المعنى الحقيقي للشراكة.
ودون شك فإن بقاء التشكيلة الوزارية بنسبة تصل إلى 95 في المئة، إذ لم يدخل الوزارة سوى وجه جديد واحد هو نزار البحارنة، (منصور بن رجب كان نائباً لمجلس الشورى المعين، الشيخ محمد بن عبدالله كان وكيل وزارة الدفاع، الشيخ خالد بن علي كان وكيل وزارة العدل، أي انهم من كبار المسئولين في السلطة التنفيذية)، في حين أن نسبة التغيير في مجلس الشورى لم تتجاوز 38 في المئة واحتفظ باقي الشوريين بمقاعدهم من دون تغيير يذكر. هذا الوطن بحاجة إلى مصالحة وطنية وإلى شراكة حقيقية تساهم في بناء المستقبل، وتضع حلولاً للملفات الساخنة العالقة وهي كثيرة، بروح عالية من المسئولية والتفاهم والانسجام، حتى نبتعد عن محطات الاحتقان ومناطق التوتر والصدام. فلقد آن لنا أن نضع خططاً استراتيجية بعيدة المدى ترسم آفاق النظام الديمقراطي الذي نريده لبلادنا والذي يضمن أفضل أشكال التعايش الاجتماعي والسياسي. لقد نضجت التجربة السياسية في هذه البلاد، وأصبح من المنطقي أن يتعامل الجميع من موقع الشراكة والتعاون، وليس من موقع الإلغاء والتهميش، ولابد أن تعكس التعيينات الوزارية والسياسية صورة هذه الشراكة بشكل يتناسب مع التوازنات السياسية والاجتماعية بما يؤدي إلى الاستقرار?
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 1565 - الإثنين 18 ديسمبر 2006م الموافق 27 ذي القعدة 1427هـ