تكسر السيف مذ زلت بك القدمُ يا خيل عدنان مات الفارس العلمُ
كان يمثل لنا - مجموعة من الأصدقاء والمعارف - قدوة ونموذجاً في الصمود ومواجهة عنجهية الدولة البوليسية. كان رمزاً للتحدي والصمود من أجل المطالب العادلة للشعب البحريني بأسره؛ مطالب إعادة تفعيل الدستور وعودة الحياة النيابية في البحرين. وعلى هذا عاش «الجمري» وعليه مات. جذوره العربية (أصله من اليمن من قرية جمرة) جعلته ملازماً للقضية الأم، ولم يستطع أحد على رغم تمثيل المسرحيات الهزلية الهزيلة في التسعينات من قبل السلطات، أن ينال من إيمانه... فهو عربيٌ مؤمنٌ بعروبة الوطن الصغير وملتزم بقضايا الوطن العربي الكبير.
لم تحد زعامته الدينية للطائفة من علاقاته الاجتماعية والسياسية المتشعبة في البلاد. كان يمارس السياسة بروح وطنية لا نظير لها ألبتة بين شيوخ الدين. عرفته من خلال خطبه السياسية التي يبدأها بـ «أيها الشعب المسلم المسالم». كان رمزاً لكل الوطن، وتجلت رمزيته في قيادته للشارع إبان حقبة التسعينات الشديدة الوطأة عليه.
خلف انزواؤه عن المسرح السياسي - بسبب المرض - فراغاً كبيراً إلى يومنا الحاضر، كان شيخاً أثخن الساحة السياسية صخباً وضجيجاً بصموده الأسطوري في مواجهة أحابيل السلطة. لم يطلب شيئاً لنفسه، وهنا يكمن سر بقائه كأسطورة. دائماً كنت أردد في نفسي أن من يطالب لنفسه يعيش لنفسه، ومن يطالب من أجل الآخرين يعيش مع الآخرين طيلة حياته وبعد مماته، فإما هذه وإما تلك!
شديد المراس في طبيعته السياسية، لين هين مع الأفاعي البوليسية القابضة بلا رحمة على أنفاس الجماهير. علاقته بالجماهير لم يكن يراها علاقة التبعية بالنسبة له، على رغم أنها (الجماهير) كانت ترى ذلك. وكانت وفية له أيما وفاء، وتجلى هذا الوفاء يوم خروجه من سجنه، إذ غصت الشوارع والقرى بالاحتفالات. وها هي «كرانة» الوادعة مازالت محتفظة برونقها وبوابتها التي تزدان بصورة الشيخ الكريم.
اعتقد أنه لو كان موجوداً بيننا - معافى - لما مرت السنوات الأربع علينا بمثل هذا العجاف، على الأقل كان الشخصية الجامعة بالنسبة إلى السنة والشيعة. إنه ليس رمزاً للشيعة كما يعتقد البعض، بل هو أكبر من ذلك، إنه رمز للوطن بأسره، سنة وشيعة، ويكفينا فخراً أننا في المحرق استقبلناه واستضفناه في جمعية الإصلاح بداية الانفراج السياسي بدعوة من رئيسها الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة. وكان من الممكن أن يكون الوضع، على الصعيد الطائفي أخف حدة مما هو عليه الآن لو قدر الله له الصحة والعافية، ولكنها المقادير يقدرها الله حيث يشاء. وإنها السياسة التي اتبعتها بعض الجهات (التي تتخذ من «التدخلية» بين السنة والشيعة وسيلة لها) في محاولة لتعميق شرخ العلاقات الاجتماعية بين السنة والشيعة.
غاب يوم أردناه ألا يغيب... «وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر»، في مثل هذه الأيام نتذكره بألم يعتصر الفؤاد، ويقبض على الجوارح، وتنهمر الدموع سيلاً مدراراً عليك يا أبا جميل. ونقولها كما قلنا سابقاً في حق رفيقه المجاهد عبدالله علي جاسم فخرو - رحمه الله - أرخوا لهؤلاء العظام كتاباً تسطرون فيه ملامح سيرته الذاتية، ومراحل نضاله الوطني، فهؤلاء ليسوا ملكاً خاصاً وإنما هم ملك الشعب البحريني، ولكي يكونوا نبراساً لشباب هذا الوطن... للصمود والوطن والقضية؛ ففي أمثالهم قال الشاعر:
وإنك رغم الموت مازلت باقياً ومثلك لا يرثى لأنك خالدُ
رحم الله الشيخ المجاهد عبدالأمير الجمري رحمة واسعة وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنّا لله وإنا إليه راجعون?
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 1565 - الإثنين 18 ديسمبر 2006م الموافق 27 ذي القعدة 1427هـ