تذكرنا القمة الخليجية كل عام بقرب انتهاء السنة الميلادية، والقمة الأخيرة التي عقدت في الرياض ليست استثناء، الاستثناء الأهم فيها هو الإشارة إلى أن دول الخليج ستنظر في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، وهي إشارة دبلوماسية إلى الدخول في «العصر النووي» الذي يبدو أن العالم الثالث قد استقر أمره على الدخول في اللعبة الخطرة وخصوصاً دول الشرق الأوسط. كان يمكن لمجلس التعاون أن يتحدث بوضوح أكثر عن قلقه العميق للتطورات المصاحبة لجهود الدولة الإيرانية الجارة في الموضوع النووي، قال ذلك متأخراً، وقال ذلك بشكل سلبي بدلاً من أن يكون ايجابياً، فالولوج إلى العصر النووي ليس حلاً عملياً ولا دبلوماسياً لمواجهة الأخطار الضخمة المحتملة على المنطقة من صراع نووي، ما قد يتفجر في الشرق الأوسط، والطاقة النووية ليست مطلباً ملحاً في منطقة تفيض ببدائل الطاقة البديلة. قبل أشهر قليلة قررت «إسرائيل» شراء غواصة فرنسية قادرة على حمل رادع نووي قيل انه سيستخدم في «الضربة الثانية» للرد على الضربة الأولى إن تم الهجوم عليها بهذا السلاح في المستقبل. كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي تحدث عن «الموضوع النووي» الإسرائيلي أخيراً، وأثار حديثه لغطاً في الرأي العام الإسرائيلي على انه أفشى أحد أهم وأدق أسرار الدولة. في مصر جرى الحديث منذ أسابيع وبقوة غير مسبوقة عن الاستخدام النووي السلمي. في الجانب الإيراني القصة أشهر من أن تكرر، فالصراع الدائر اليوم بين الغرب وبين إيران هو حول هذا الموضوع بالذات، وباقي الخلافات تفاصيل ثانوية. قلت ما تقدم لأن جيلاً كاملاً في الغرب عاش تحت «التهديد النووي»، وكان خبزه ومرقه اليومي ذلك الخوف الدائم من التهديد بنشوب حرب نووية بين الشرق والغرب، تصبح الحروب التي عرفتها الإنسانية في تاريخها السابق كله «لعب أطفال» بالنسبة للحرب التي كان الغرب يتخوف منها، وبنيت المخابئ العميقة، ونشرت الكتب، وصيغت السياسات وأعدت الجيوش حول سياسة مواجهة ذلك الرعب النووي التي لم تستطع الحضارة الغربية بكل ما أوتيت من قوة علمية، أن تخترع رادعاً حقيقياً له. فعندما تبدأ حرب نووية فإنها لا تبقى ولا تذر حسب التعبير العربي العميق. ذلك الخوف الذي صيغت حوله لفترة نصف قرن تقريباً كل السياسات الغربية تجاه الآخر (الاتحاد السوفياتي وقتها)، وسميت تلك السياسات بالحرب الباردة، ينتقل إلى الشرق الأوسط وتحديدا المنطقة العربية وفي بؤرتها الخليج. فالتخوف من القوة النووية الإيرانية هو تخوف ذو شقين: الأول عسكري واقعي، والثاني سياسي. إذا أخذنا الأمور على شاكلتها السطحية، فإن القول بان إيران تتسلح نووياً رداً على التسلح الإسرائيلي، فإن تلك المقولة تجد صدى ايجابياً لدى العربي، فالشارع العربي قد ضاق ذرعاً بهول ما يلاقيه أخوه الفلسطيني من عنت وقتل وتشريد وحرمان من الإنسانية في أبسط حقوقها. والأحداث الأخيرة في فلسطين تثير أي عاقل حصيف، فقد تم نشر صور على نطاق واسع لعملية قتل امرأة فلسطينية في بيت حانون، ليس بيدها سلاح غير حقيبة بلاستيكية للمشتريات القليلة التي تحملها سداً لضائقة أسرية، وكان القتل متعمداً. أما وجبة القتل الثانية التي اعتذرت «إسرائيل» عنها وراح ضحيتها ثلاثون من البشر العرب الفلسطينيين، وكان الاعتذار أقبح من الذنب نفسه، فقد قيل ان ذلك القتل تم بسبب «خطأ راداري»! وبصرف النظر عن الحرب الأهلية الوشيكة بين الفلسطينيين أنفسهم، فإن هذا القتل والتدمير الإسرائيلي اليومي يجعلان من الشارع العربي يسارع إلى تأييد أدنى احتمال لتوظيف قوة ما في وجه هذا الصلف، حتى لو كان هذه القوة هي «قوة نووية إيرانية». في هذه المعادلة فإن الحديث الخليجي عن «نزع السلاح النووي» من الشرق الأوسط، أو حتى «استخدام التقنية النووية في الأغراض السلمية» كناية عن استحواذ قدرة فنية للتصرف بها في المستقبل. كل ذلك هو هروب للأمام، لأنه إذا نشبت حرب من ذلك النوع الذي تخوفت منه شعوب الغرب في الخمسين سنة الماضية وارتعدت فرائصها من شتاء نووي... إذا نشبت تلك الحرب في مجالنا الحيوي العربي، وفي قلبه مدن الخليج المفتوحة والخالية حتى من الحد الأدنى من أية مظاهر أو مخابر الحماية، فان ذلك يحول المنطقة إلى دمار لا تقوم بعده روح إنسانية واحدة توحد الله. إذاً الموضوع خطير ومهم وأولي في السياسة العربية والخليجية على وجه الخصوص، لأن المسألة هي بقاء أو فناء وليس بينهما وسط يرتجي، والمسألة المهمة التي يجب أن تطرحها الشعوب ترى ما العمل في جو قاتم مثل هذا؟. جو يلبده الصلف الإسرائيلي من جهة والمشروع الإيراني النووي الغامض الأهداف من جهة أخرى، الثاني يتغذي على الأول في حشد الرأي العام العربي لجهة مشروعه، والثاني يضرب بعرض الحائط أدنى تنفيس لشعب يتحول دمه إلى ماء وإنسانيته إلى شبه حيوانية. وتبقى دول الخليج في وضع لا تحسد عليه، هي مهددة وشعوبها قابلة للتدمير من جهة، وفاقدة لسند الشارع «المخطوف» للقيام بأية مساع لقول كلمة سواء للجارة إيران. في مثل هذا الجو الخانق تحتاج السياسة إلى ابتكار خارج الشكل التقليدي، وخارج إغماض العين أو التخفيف من المخاطر الآنية بزيادتها في المستقبل. الوضع النووي في المنطقة خطير إلى درجة انه يحتاج إلى مناقشة موضوعية.
الفشل الدبلوماسي الواحد بعد الآخر بين إيران وبين الأوروبيين والأميركيين ينذر بخطر داهم، والتقارير العملية المنشورة والموثقة من قبل خبراء في الطاقة النووية تقول ان السباق هو سباق زمني، فإيران تريد أن يصبح المفاعل في بوشهر (ساخناً) بالسرعة اللازمة، أي مجهزا، والعالم يطلب من القوى الأوروبية/ الأميركية التريث لعل حلاً وسطاً يمكن أن يتوصل إليه في المستقبل القريب. الخطورة علينا في الخليج انه متى ما أصبح المفاعل الإيراني «ساخناً» فإن أية ضربة «عسكرية جراحية قد تكون مفيدة من الناحية العسكرية للمصالح الغربية حيث إجهاض ذلك الاحتمال يبعد الخطر عنهم، ولكنها ستجعل من الشتاء النووي في الخليج حقيقة مؤكدة، فتساقط الإشعاع النووي من هكذا عمل سيحقق كارثة، ويكفي أن نتذكر كارثة شيرنوبل في العام 1986 التي دمرت مئات آلاف من الأنفس البشرية وما زالت تفعل. من دون تفكير جدي للحديث مع الجارة إيران بشأن المخاطر الممكنة والفرص المتاحة بعقل وقلب مفتوح بعيداً عن الشعارات السياسية، فإن الخيار الذي احتضنته القمة الخليجية هو خيار غير مجدي في تخفيف المخاطر الحقيقية على سكان المنطقة. الأمر الذي يحتاج إلى شجاعة في مواجهة الحقائق وإعادة النظر فيما يجري من قبل الدفاع عن المصالح المشتركة?
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1565 - الإثنين 18 ديسمبر 2006م الموافق 27 ذي القعدة 1427هـ