العدد 1561 - الخميس 14 ديسمبر 2006م الموافق 23 ذي القعدة 1427هـ

الديمقراطية الإسلامية بين الحقيقة والخيال (2-2)

علي بايا comments [at] alwasatnews.com

.

علي بايا

ينبغي أن تكون هذه القيم قادرة على تحسين كفاءة وأداء النظام الديمقراطي ضمن الإطار الاجتماعي الإسلامي  

مقارنة مع النموذج الانتقالي المتصاعد للديمقراطية الإسلامية، يمكن أيضا تصور نماذج متناقصة. لعل الشيء المميز الأساسي لنموذج من هذا النوع هو أن القيم الدينية المضافة إلى الماكنة الديمقراطية هي قيم انحصارية exclusivist لا تسمح بالتعدد والتنوع، ولهذا فهي ربما تبرر التمييز ضد شرائح معينة أو تعاملهم كمواطنين اقل درجة من غيرهم. مثل هذا النوع من القيم المضافة يؤدي في نهاية المطاف إلى إنتاج نموذج يختصر مشاركة المواطنين في الشأن العام كما يمسح الهوية الأصلية للديمقراطية ويحولها نوعاً شبيهاً بديمقراطية خاصة بأولئك الذين وضعوها في عزلة عن باقي الجمهور، أي ديمقراطية للنخبة الحاكمة أو ما يشبه النظام النخبوي الاوليغارشي.

الديمقراطيات الإسلامية والتقييم النقدي

الديمقراطيات الإسلامية، مثل جميع المباني المجتمعية الأخرى، يمكن، بل ويفترض أن تخضع لعملية تقييم نقدي متواصلة على المستويين النظري والتطبيقي. على المستوى النظري يجرى تقييم الوظائف المختلفة والمكونات القيمية لكل من هذه النماذج بالنظر إلى الإطار الاجتماعي الذي تطبق فيه، أما على المستوى التطبيقي فإن التقييم يتناول الوظائف والقيم ذاتها بالنظر إلى النتائج غير المرغوبة التي ربما أثمر عنها تطبيق النموذج أو بعض جوانبه ضمن إطار الحياة الواقعية.

من بين الأدوات المفهومية التي تستعمل في تقييم الأداء الوظيفي والقيمي لأي من نماذج الديمقراطية الإسلامية، ثمة اثنان يستحقان الذكر خصوصا: الأول هو ما يسمى بـ «منطق الحال، أما الثاني» فهو «التجربة الفكرية».

السؤال الذي ربما يطرح نفسه هنا: ماذا نفعل إذا ظهر تعارض بين الخواص الأصلية لماكنة الديمقراطية والمنظومة القيمية التي أضافها المجتمع على تلك الماكنة ؟ مثل هذه الوضعية الافتراضية يمكن أخذها في الاعتبار عند تبني واحد من نماذج الديمقراطية الإسلامية. للإجابة على هذا السؤال يمكن مقارنة المشكلة بتلك التي أشار إليها «كانت» حين تحدث عن كيفية الخلاص من الشك المطلق. طبقا لـ «كانت» فإن للشكاك دور عظيم الأثر في جعلنا واعين وحذرين من التساهل المعرفي.

لكن نظراً إلى أنه لا يمكن استبعاد الشكاك المطلق من الميدان أو الرجوع إلى الاستدلالات العقلية، فإنه حيثما تحول الدور الايجابي للشكاك إلى دور هدام، وتغير دوره من المساعدة في التخلص من الانزلاقات المعرفية إلى عائق من دون كسب معرفة جديدة، عندئذ فإن العقل يدعونا الى صرف النظر عن رأي الشكاك وحل المشكلة بالرجوع إلى معايير براغماتية.

على الأساس نفسه فإنه يمكن المجادلة بأنه في حال ظهر أن بعض القيم المضافة هي عائق ومعطل لماكنة الديمقراطية، فإنه من العقلاني الرجوع إلى المعايير البراغماتية لتمكين الماكنة الديمقراطية من القيام بوظيفتها الأصلية أي إدارة الشأن العام للمجتمع. هذا يعني إعطاء الأولوية في العمل للماكنة على حساب القيم المضافة.

يذكر هنا أن مثل هذا الموقف له سوابق في التراث الإسلامي، ومن بين الأمثلة القريبة زمنيا هو الموقف الريادي الذي اتخذه آية الله الخميني حين اصدر فتوى تؤكد أولوية النظام العام للبلاد على سائر الأحكام الشرعية. هذه الفتوى تعتبر مثالاً آخر على هذا النوع من الاستدلال العقلاني، أي الرجوع إلى الحلول البراغماتية.

حدود الإسلامية

في هذا المقطع، يبدو مفيداً السؤال: إلى أي حد يمكن استعمال نسبة «الإسلامية» في وصف الأشياء، المباني المجتمعية، والكيانات ؟ هل يمكن مثلاً القول بوجود بنك إسلامي أو نظام مصرفي إسلامي أو اقتصاد إسلامي أو تكنولوجيا إسلامية أو علم إسلامي، مثلما وصفنا نموذجاً من الديمقراطية بأنه ديمقراطية إسلامية؟

هل هناك حدود نهائية لمثل هذه النسبة، أو أن كل شيء يمكن أسلمته بإضافة صفة الإسلامي إلى مؤخرته؟

دعنا نبدأ جوابنا بسؤال التكنولوجيا والعلم الإسلامي. تمثل التكنولوجيا في رأيي بنية قابلة لحمل هذه الصفة، بل إن التكنولوجيا الإسلامية كان لها تمظهرات تاريخية معروفة، لكن خلافاً لهذا فإنه لا يمكن نسبة العلم، إذ لا يصح القول بوجود علم إسلامي أو صيني أو أميركي أو ما أشبه.

ليس من العسير توضيح هذه الثنائية، فالعلم عبارة عن منظومة من الفرضيات، النماذج، النظريات التي صيغت على يد البشر من اجل فهم الأشياء والمركبات ومسارات العمل الخ... التي تشكل بمجموعها ما نسميه بالواقع أو الواقعي. العلم بالنسبة الى العالم مثل شبكة يصممها الصياد ويطرحها في الماء كي يصطاد السمك.

في هذا الإطار فإن المقولة العلمية بشأن واقع معين لا تعتبر كشفاً لحقيقته، بل رأياً قابلاً للإبطال - من حيث المبدأ - وإن لم يجر إبطاله بعد. هذا طبعاً على فرض أنها مازالت قائمة ولم يجر إبطالها فعلاً. إذا كانت المقولة من الصنف الأول فستعتبر علمية سواء كان الذي توصل إليها عالم مسلم أو صيني أو أميركي أو غيرهم. أما إذا جرى إبطالها، فإنها لن تكون حينئذ من بين التراث الموصوف بالمعرفة العلمية، حتى لو كانت - في نظر مؤرخي المعرفة - في غاية الأهمية كموضوع قائم بذاته أو كحلقة في تسلسل تاريخي. لهذا مثلاص فإن النموذج الفلكي الذي صممه ابن الشاطر، والذي يقال إنه ألهم كوبرنيكوس، لا يسجل كمنظومة مقولات علمية وان كان مثبتا كمحاولة قيمة ضمن تاريخ العلوم. والأمر نفسه يقال عن نظرية الفلوجستون التي اقترحها العالم الألماني شتال.

بالنسبة الى التكنولوجيا فان الأمر مختلف. على رغم العلاقة الوثيقة بين التكنولوجيات والعلوم الطبيعية، فإن الاثنين متمايزان وثمة فروق عدة بينهما، فهما أولاً يختلفان في الغايات. غاية العلوم هي تحصيل المعرفة بالجوانب الكثيرة للواقع، أما غاية التكنولوجيا فهي التنبؤ بالتغير في هذا الواقع والسيطرة عليه.

يمكن تطبيق المعادلة نفسها في مسألة «البنك الإسلامي» أو «النظام المصرفي الإسلامي». البنك هو مبنى مجتمعي، ماكنة لتيسير بعض الوظائف الاجتماعية. وبهذا الاعتبار فإنها تنطوي على جانبين، فهي من جانب أداة بحتة، وهي من جهة تحمل القيم المضافة إليها من جانب أفراد الجماعة في ظرف معين. في حال البنك الإسلامي فيمكن تصور نظام مصرفي يحمل القيم الإسلامية. بمعنى آخر فان قراءة تلك الجماعة للإسلام أو تفسيرها لقواعده ستتخذ أساسا لتحديد المبررات التي أوجبت قيام تلك الماكنة/ البنك والأغراض التي يستهدف تحقيقها.

في الخلاصة، نسعى الى وضع الخطوط العريضة لنموذج مقترح للديمقراطية الإسلامية يمكن تبنيه من جانب الفاعلين الاجتماعيين في إطار اجتماعي إسلامي متقدم فكرياً مثل إيران.

نفترض أولاً أن الكثير من الجوانب الوظيفية لهذه الماكنة الديمقراطية في هذا الإطار المجتمعي الخاص ستماثل تلك التي تؤديها الماكنات الأخرى المستعملة في الديمقراطيات الحديثة. نفترض أيضا أن المكونات القيمية لهذه الماكنة ستحدد على ضوء قراءة عقلانية - تحليلية للإسلام. تنظر المدرسة العقلانية - التحليلية إلى العقل ككون مستقل في عمله وكسلطة قائمة بذاتها ليس فوقها سلطة أخرى. القرآن الكريم والسنة النبوية يمكن فهمهما فقط من خلال عملية تفسير متواصلة يمارسها العقل المستقل، غرضها المحافظة على الجسر الذي يربط بين محتوى النص الثابت وواقع الإنسان المتغير. على رغم أن العقل يعمل مستقلا، فإنه - من حيث التكوين - يحمل الكثير من الصفات والهموم الخاصة بالبيئة الاجتماعية لصاحبه التي تمثل بمجموعها جزءاً مما نطلق عليه اسم «البيئة العقدية الإسلامية». البيئة العقدية، مثل الأنظمة البيئية الطبيعية، هي أنظمة دينامية حركية تتفاعل بنشاط مع العوامل التاريخية والجغرافية. ومن هذه الزاوية فهي أنظمة متنامية ومتوسعة في مكوناتها الداخلية وفي تمظهراتها الخارجية. ومع توسعها ينضم إلى تكوينها أعضاء جدد، أي «إرادات» سواء فردية أو جمعية تتفاعل فيما بينها ومع البيئة الأوسع.

إذا أردنا تطبيق المنظور العقلاني - التحليلي على ظرف إيران الخاص، فإن صيانة النظام الإقليمي للبلاد هو شرط مسبق لأي مسعى يستهدف إقامة نموذج ديمقراطي إسلامي. في هذا الإطار، وبالنظر الى التحدي المتمثل في التوليفة الاجتماعية المتنوعة، الدينية واللغوية والثقافية، للقطر الإيراني، فإنه ليس من اليسير التوصل إلى إجماع على المبادئ الأساسية التي سيقوم عليها النموذج الديمقراطي. سيتطلب الأمر جهدا كبيرا ومركزا لصوغ وترسيخ أعراف ديمقراطية، ومناهج عمل ومؤسسات، لتشجيع ودعم التحول نحو نموذج ديمقراطي قابل للحياة والاستمرار.

نموذج الديمقراطية الإسلامية المقترح يستهدف الوصول إلى تركيب مناسب يجمع التطلعات والميكانيزمات الضرورية لضمان المشاركة والتمثيل الشعبي والمتعارفة في الأنظمة الديمقراطية العريقة على نحو متكامل، كما يضمن في الوقت نفسه معايرة وضبط عمل المؤسسات السياسية على ضوء القيم الإسلامية المعقولة. من هنا فإن هذا النموذج سيشجع مثلا التفاعل الإنساني المباشر والقائم على أرضية المساواة كوسيلة ضرورية لتعزيز الاحترام والتقدير المتقابل، وتعزيز الرابطة الروحية بين المواطنين، واستيعاب المشتركات التي تجمع بينهم. للوصول إلى هذه الغاية سنحتاج إلى تشجيع التبادل الثقافي بين المجموعات العرقية والثقافية المختلفة وهو أمر يتطلب بالتأكيد ضمان التعددية الثقافية في أوسع تجلياتها. كما يتطلب تشجيع الاعتماد على الحوار كوسيلة لتكوين إجماع وطني يتجلى في أعمال مشتركة وبحث عن حلول للمشكلات بالتعاون بين المواطنين والحكومة وذوي الخبرة.

يجب أن يوجه نموذج الديمقراطية الإسلامية المنتظر اهتماما فائقا للحقوق الأساسية للإنسان والحريات المدنية، وان يضمن مساحة عمل مناسبة لمنظمات المجتمع المدني كي تلعب دورها الضروري في تيسير العلاقة بين الأفراد من جهة وبين القوى السياسية والاقتصادية من جهة أخرى، وكي تسهم في حماية حريات الأفراد وحقوقهم. ويوجه النموذج اهتماما كبيرا للقيم الإسلامية مثل احترام الأخلاقيات العامة والأعراف المقبولة بين عقلاء العالم، إضافة إلى الرعاية المتبادلة والمسئولية المشتركة للمواطنين عن بعضهم وعن النظام البيئي الذي يعيشون في إطاره

إقرأ أيضا لـ "علي بايا"

العدد 1561 - الخميس 14 ديسمبر 2006م الموافق 23 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً