في مثل هذا الشهر وقبل سنتين تقريباً تزلزلت جزيرة سومطرة الإندونيسية ما أدى إلى ارتفاع أمواج البحر وارتدت حيطان المياه على السواحل فأغرقت القرى والمنتجعات السياحية وجرفت معها آلاف الضحايا. أطلق على تلك الأمواج الهائلة تسمية "تسونامي" وهي مفردة يابانية تم تداولها عالمياً وتحولت إلى مسمى عام دخل كل لغات العالم. ومنذ ذاك العام بدأ السياسيون يستخدمون تلك المفردة حين يتحدثون عن تدفق أمواج البشر أو حين يشيرون إلى اجتياح بشري أو قوة ضغط طبيعية. إلا أن "تسونامي" تحولت عند المخرجين إلى مشهد سينمائي وأخذت استديوهات هوليوود وغيرها تحاكي ذاك المعنى من خلال إنتاج أو إعادة إنتاج أشرطة تشير إلى هول البحر في لحظات الغضب والهياج. ولم تقتصر تلك الأفلام على استخدام المشهد للتخويف وإنما بدأت بالتنويع عليه للكشف عن المخاطر الناجمة عن مثل هذه الأمواج الغاضبة.
أكثر من فيلم أنتج في هذا المعنى. وهي كلها تحاكي "تسونامي" ولكنها تشير إلى موضوع آخر يتصل بالبحر وأعماقه ومخاطر غضب الطبيعة حين تنفجر أو تهتز أو تخرج عن حيادها. فالطبيعة جميلة في مظهرها الخارجي ويومياتها العادية ولكنها تنقلب على نفسها حين تتعرض إلى اهتزازات أو متغيرات. وهذا الغضب الطبيعي لا يستمر طويلاً ولكنه على قصر وقته يشلك حدثاً استثنائياً في لحظات. وتلك اللحظات كافية لتشكيل رؤية مخالفة لمجرى الاستقرار الذي تظهر خلاله الطبيعة.
أكثر من فيلم عرض حديثاً في البحرين تناول هذا الجانب. ففي سينما السيف جاء ذاك الشريط الذي يتحدث عن "خفر السواحل" في منطقة أميركية (الاسكا) تتعرض دائماً للانواء البحرية ويخوض رجال السواحل معارك يومية لانقاذ السفن والناس من ويلات غضب الطبيعة. وفي سينما الدانة يعرض فيلم "بوسندون" وهو يروي قصة سفينة سياحية تعرض إلى أمواج عاتية (تسونامي) قلبتها رأساً على عقب في لحظة كان الركاب يحتفلون فيها برأس السنة الميلادية.
القصتان لا تتحدثان عن ذاك الاعصار البحري (تسونامي) الذي ضرب جزيرة سومطرة في إندونيسيا، ولكنهما تتحدثان عن أعاصير أخرى حصلت أو تحصل يومياً في أمكنة أخرى. انها مسألة محاكاة ولكنها أيضاً تعطي فكرة عن ذاك الاثر العميق الذي تركه مشهد تسونامي في اندونيسيا في ذهنية المخرجين ودفع الشركات إلى تمويل إنتاج أفلام تصور ذاك المشهد المرعب وتنقله إلى المشاهدين.
الخطر إذاً ليس فريداً من نوعه ولن يتكرر بل هو قائم دائماً ويمكن أن يقع في أية لحظة أو مكان. الفيلم الذي يروي قصة حرس السواحل في أميركا حاول قدر الإمكان الجمع بين ثلاث زوايا. الأولى اسطورية وأقرب إلى الخرافة وهي تشير إلى رجل ماء يعيش في قاع البحر ويعمد على انقاذ الناس من مخاطر الأمواج العاتية التي يتعرضون لها. والثانية روتينية تتحدث عن معهد للتدريب مهمته تخريج دفعة سنوية من الطلبة يتم اختيارهم وفق برنامج قاس لتأهيل خفر السواحل للقيام بمهمات شديدة الصعوبة. والثالثة قصة حب زوجي يداخل في صراع عنيف بين الزوجة التي تعيش وحيدة في منطقة نائية وباردة وبين زوج شجاع أهمل حياته الاجتماعية وواجباته الأسرية من أجل انقاذ الناس من الهلاك.
القصة عادية جداً ولكن قوة الفيلم جاءت من تلك المشاهد العنيفة التي اعتمدها المخرج للتأكيد على مخاطر البحر وخصوصاً في المناطق التي تشهد دائماً حالات من الاضطراب الطبيعي.فالمشاهد التصويرية لانواء البحر وتموجاته القاسية التي تهدد السفن وشاحنات النقل البحري ومراكب الصيادين أعطت الشريط السينمائي ذاك الزخم وانقذته من الملل وخصوصاً حين ينتقل إلى شرح مطول عن أساليب التدريب المتبعة لتأهيل فرق الانقاذ على القيام بواجباتهم. فالمعهد هو الجانب المضجر من الفيلم ولكن المخرج عرف كيف يتعامل بقوة مع مشاهد انواء البحر وتلاطمها مع السفن. فالقوة تكمن في هذه اللقطات وهي لحظات قليلة ولكنها كانت كافية لتصوير العذابات التي تواجهها فرق الانقاذ في مهمات يومية ولا يعرف عنها الكثير.
الفيلم الثاني الذي يعرض في الدانة يتحدث عن سفينة سياحية ضربتها موجات عاتية (حيطان مياه) ودفعتها إلى الغرق. وقبل أن تغرق حصل ذاك التدافع الهائل بين الركاب بسبب انقلاب السفينة. فالمخرج اكتفى بمشهد سريع عن "تسونامي" وبعدها انتقل إلى داخل السفينة ليصور مشاهد التدافع البشري والمخاطر التي تعرض لها الركاب الذين تصادف وجودهم في هذه اللحظة وعلى موعد الاحتفال برأس السنة الميلادية.
الشريط السينمائي لا يتحدث عن "تسونامي" ولكنه اتخذ المشهد المرعب مناسبة للمحاكاة ولو من بعيد لينتقل مباشرة إلى عرض قصة مجموعة صغيرة كانت وكافحت وبذلت كل ما تملكه من معلومات وخبرات وتجارب لانقاذ نفسها من غرق محتم. كل ركاب السفينة يتعرضون للموت إما بسبب الانقلاب المباشر أو بسبب انتظارهم لفرق الإنقاذ. المجموعة الصغيرة التي قررت الاعتماد على نفسها كانت الفئة الوحيدة التي نجحت في التخلص من احتمالات الغرق. ولكن المجموعة لم تنجح كلها في الخروج بسبب الموانع التي واجهتهم واسقطت بعضهم على الطريق.
قصة هذا الفيلم أيضاً عادية فهي تشير إلى القدر والمصير الذي يواجه الإنسان ولا يعرف متى تأتي ساعته. فالسفينة ضخمة وفخمة وتملك كل التقنيات والمقومات ومجهزة بكل ما تتطلبه من وسائل اتصال وانقاذ... ومع ذلك لم تصمد كثيراً أمام "تسونامي".
انه قدر الركاب الذين اختاروا تلك السفينة لقضاء عطلة الميلاد ورأس السنة ولكن اللحظة حين تأتي يصعب التهرب منها. وهذا الأمر ينطبق أيضاً على تلك الحفنة التي قررت الا تستسلم لمصيرها فارادت تحدي الصعوبات فنجح بعضها وقتل الآخر.
تفصيلات الفيلم كثيرة ولكنها ليست مهمة. فالمجموعة تضم رئيسا سابقا لبلدية نيويورك وابنته وصديقها ولاعب قمار وإيطالية دخلت السفينة خلسة لأنها لا تملك ثمن تذكرة ورجلا ثريا قرر الانتحار وعدل عنه بعد أن خربت الأمواج العاتية السفينة. وبعد كفاح مرير يقتل الأب (رئيس البلدية) ولاعب القمار والإيطالية وتبقى الابنة وصديقها وذاك الثري الذي كان يفكر في الانتحار. والنقطة الأخيرة تشكل تلك اللعبة الذكية التي ابتكرها المخرج. فكل الركاب يتمسكون بالحياة والعيش ولكنهم واجهوا الموت بينما الذي كان يفكر بالانتحار كان من تلك الحفنة التي وجدت الخلاص بعد جهد كبير. لعل هذه النقطة أهم لفتة يمكن ملاحظتها في تلك الدراما.فمن يريد العيش قتل ومن كان يخطط للانتحار عاش.
في أي حال المسألة ليست في دراما الفيلمين. فالأول استخدم اسطورة خرافية مدخلاً لرواية حكايات رجال خفر السواحل. والثاني استخدم مفارقات القدر كإطار لرسم صورة عن التدافع الذي يخيم على البشر في لحظات الشدة وبسبب حادث غير متوقع.
القصة ليست مهمة سواء في الأول أو الثاني وانما تكمن في التأثيرات التي تتركها عادة المشاهد الحقيقية التي تحصل في الطبيعة (تسونامي في سومطرة) على المخرجين وشركات الانتاج السينمائية. فالوقائع تصنع الصور وتفتح الآفاق امام المخيلة وتعطي عينات صغيرة عن تحولات أو متغيرات مذهلة وغير محسوبة... بعدها تأتي السينما ودورها في إعادة نقل المشهد الحقيقي وسحبه من عالم الواقع (الطبيعة والبشر) إلى لقطات تصويرية ومبرمجة تبذل المستحيل لتقريب الحقيقة إلى مخيلة المشاهد
العدد 1560 - الأربعاء 13 ديسمبر 2006م الموافق 22 ذي القعدة 1427هـ