79 اقتراحاً هي محصلة تقرير بيكر - هاملتون الذي رفع الى الرئيس الاميركي جورج بوش لمعالجة المأزق في العراق. والكثرة كالقلة كما يقول المثل. فهي لا تقدم ولاتؤخر وأحياناً تعطي مفعولاً معاكساً لانها تشتت الذهن وتفقد الانسان إمكان التركيز. التقرير لم يترك شاردة ولا واردة في المنطقة العربية /الإسلامية الا وتطرق اليها من هذا الجانب أو ذاك وخلط الجديد بالقديم وربط المستحدث بالمزمن. وهذا يعني في لغة المنطق ان الاقتراحات المتشعبة بحاجة الى زمن طويل للتعامل معها، وتحتاج الى زمن اطول لتطبيقها. وحين تتسع الاقتراحات وتتكاثر فهذا يعني منطقياً ايضاً ان التقرير ليس جاداً ويفتقد القدرة على تعيين اولويات وتحديد مداخل مركزية تشكل بداية للحلول المطلوبة لانقاذ المنطقة من مشروع التفكيك و»الحريق الاقليمي» و»الاقتتال الأهلي» ذات الطابع الطائفي/ المذهبي.
التقرير اذاً محاولة أميركية أخيرة للهروب الى الأمام. وحتى يؤمن تغطية سياسية للفشل قام كتبته بإطلاق قنابل دخانية لحجب الرؤية ومنع امكانات التقاط المصدر الاساسي للخلل. عادة تلجأ التقارير العلمية والموضوعية الى لغة التكثيف لتحديد مصادر المشكلات تسهيلاً لضبطها في اقتراحات واضحة لا تتعدى النقاط الأربع أو الخمس. وبقدر ما تكون الاقتراحات قليلة تكون امكانات التطبيق أكثر مرونة لأنها تساعد الطرف المعني بها مباشرة على التعامل معها بصفتها عناصر يمكن الاعتماد عليها لبناء سياسة مختلفة عن السابقة.
تقرير بيكر - هاملتون استخدم الاسلوب المعاكس. فبدلاً من ان يختصر المشكلات الى برنامج واضح المعالم يقتصر على نقاط واضحة لا تزيد على الأربع أو الخمس لجأ التقرير الى تشتيت الذهن وتوسيع الدائرة وتفريق المشكلات وتوزيعها على 79 اقتراحاً. وهذا بالضبط يعتبر أحد أهم عناصر ضعف التقرير لأنه أعطى الرئيس الأميركي تلك الفرص للتهرب أو المماطلة او التلاعب وعدم تحمل المسئولية المباشرة.
لجنة بيكر - هاملتون تشكلت أصلاً لمعالجة موضوع العراق وكانت مهمتها البحث عن مخارج ومسالك تسعف الإدارة الأميركية على اعتماد سياسة بديلة تنقذ الولايات المتحدة من فشل كبير. وهذا يعني كان على اللجنة ان تركز موضوعها على مسألة اساسية وهي تحديد فترة زمنية للاحتلال أو على الأقل وضع جدول زمني للانسحاب من العراق. وبعد هذه النقطة المركزية كان بامكان اللجنة ان تضع مجموعة اقتراحات تتفرع من حجر الزاوية.
لجنة بيكر - هاملتون فعلت العكس. فهي لم تحدد فترة زمنية للاحتلال وتركت موضوع جدولة الانسحاب منطقة حرة يقررها جنرالات الجيش الاميركي. وهذا بالضبط مايريده بوش أي انه يريد ترك حرية القرار بيده ليتصرف به كما يشاء وفي الوقت الذي يختاره. وحين يترك الأمر للمسئول عن الكارثة تصبح لديه كل الوسائل المتاحة التي يستطيع استخدامها وقت الحاجة مثل الابقاء على الاحتلال طوال سنة 2007 والربع الاول من العام 2008. وهذا المجال الزمني الممتد نحو سنة وربع السنة يعتبر كافياً لرئيس يتلقى أوامره من «الأعلى» أن يستمر في الخبط العشوائي والتصرف بطرق تتيح له التهرب من المسئولية وتحديد الموعد الزمني للانسحاب. هذه أهم نقطة كان يجب على لجنة بيكر - هاملتون الاجابة عنها تجنب التقرير التطرق اليها ولم يشر الى موعدها الزمني بوضوح. وبسبب غموض النقطة المركزية في التقرير لجأت اللجنة الى الاحتيال عليها من خلال الاكثار من التوصيات.
79 اقتراحاً استعرضتها اللجنة في تقريرها وكلها تشير الى مشكلات تعاني منها المنطقة العربية/ الإسلامية من العراق وفلسطين ولبنان والقرار 1701 وحق العودة ودول الجوار ودور سورية وإيران وضرورة مشاركة جميع القوى في حل نقاط مزمنة لا يمكن تجاوزها أو تخطيها من دون النظر اليها ومحاولة معالجتها في إطار صفقة تشمل حزمة من القضايا الساخنة التي تزعزع الاستقرار وتدفع بالدول الى «حريق اقليمي» كما قال وزير الدفاع الاميركي خلال جلسة التعيين في الكونغرس.
79 اقتراحاً ورد في التقرير واشتملت النقاط في مجموعها العام سلسلة قضايا مترابطة تبدأ في ايران وتنتهي في غزة ولكن الاقتراحات لم تتناول المسألة المركزية وهي «متى ينسحب الاحتلال من العراق؟». وهذا الغياب يشكل نقطة ضعف في عمل اللجنة. فالتقرير خرج عن سياقه المحدد محاولاً تشتيت التركيز على قضيه جوهرية ومفصلية من خلال الادعاء انه يريد معالجة كل قضايا المنطقة وفي طليعتها فلسطين وحق العودة والجولان ولبنان ومعاودة الاتصال بسورية وإيران ودول الجوار للبحث في امكانات المساعدة على إيجاد حل لمأزق الاحتلال في العراق.
هذا الالتفاف حول جوهر الموضوع يكشف عن احتمالين:
أولاً: إن الولايات المتحدة بصدد تغيير استراتيجيتها الدولية في «الشرق الأوسط» وانها تبحث عن وسائل جديدة في التعامل مع قضايا المنطقة والاقلاع عن انحيازها للكيان الصهيوني والبدء في البحث عن موقف عادل لحل مشكلات فلسطين والأراضي العربية المحتلة وعودة النازحين إلى ديارهم.
ثانياً: ان الولايات المتحدة متمسكة بمواقفها وتريد شراء الوقت من خلال فتح ملفات مزمنة بغية تغطية فشلها في العراق وتأمين مخرج لها يضمن لدولتها عدم تحمل مسئولية ما حدث أو ما سيحدث بعد سنتين من الآن.
الأقرب إلى المنطق
أي احتمال أقرب إلى المنطق ويمكن تصديقه. هل حقاً أن واشنطن قررت تبديل سياستها المنحازة إلى «إسرائيل» والتعامل بايجابية مع قضايا المنطقة العادلة وتريد فعلاً حلها خلال سنة وربع السنة بالتعاون مع دول الجوار وسورية وإيران ولبنان؟. وهل واشنطن فعلاً بدأت تعيد النظر بسياستها وأخذت تتراجع عن تأييدها المطلق لتل أبيب وتفكر باتباع منهجية عادلة في التعاطي مع مشكلات مزمنة كانت هي أحد أبرز مسبباتها؟.
هل هذا الانقلاب فعلاً حصل في الاستراتيجية الأميركية ما أضطر لجنة بيكر - هاملتون على أخذه في الاعتبار وإدراجه في سلسلة اقتراحات لا تنتهي بمناسبة البحث عن خطة للخروج من العراق؟. هذا الاحتمال يمكن استبعاده لمئة سبب.
يبقى الاحتمال الآخر والمرجح، هو أن الولايات المتحدة لم تغير استراتيجيتها ولكنها أصبحت في وضع صعب يحرج إدارتها ويضغط عليها للاعتراف بالفشل من ناحية وطلب المساعدة من ناحية أخرى. وهذا الأمر يتطلب منطقياً وخلقياً عدم التعامي عن قضايا جوهرية لتبرير طلب المساعدة.
لجوء لجنة بيكر - هاملتون إلى التطرق إلى كل قضايا المنطقة وإعادة تفريعها وتوزيعها على 79 اقتراحاً يجب التعامل معه بموضوعية حتى لا تنزلق التحليلات والفرضيات إلى حسابات غير دقيقة واستنتاجات غير مدروسة. فالتقرير وجد أنه من الصعب عليه طلب المساعدة من دول الجوار وسورية وإيران والدول العربية لايجاد مخارج للاحتلال من دون تقديم غطاء سياسي يتميز ببعض التطمينات للقوى المعنية أن أميركا باتت في وضع خاص وهي بصدد مراجعة مواقفها من نقاط ساخنة أو باردة أو مزمنة. وهذا يعتبر في علم التفاوض رشوة سياسية لتسهيل تمرير خطة الطرف الآخر. فأميركا تعرف أنه من الصعب الذهاب إلى دول الجوار وطلب المساعدة منها مجاناً ومن دون مقابل. لذلك قررت اللجنة اعتماد سياسة البذخ في تكثير النقاط وتنويع الاقتراحات وبعثرتها على عشرات القضايا المترابطة حتى تجد ذاك الغطاء الذي يبرر لها اللجوء إلى المنطقة لمساعدتها على التهرب من مأزق الاحتلال في العراق. وبما أن الاحتلال هو المشكلة الراهنة وهو السبب المباشر الذي دفع الكونغرس إلى تشكيل لجنة بيكر - هاملتون أقدم التقرير على طرح 79 توصية وتجاهل النقطة الأساس التي كانت هي الدافع وراء تأليف اللجنة.
على من تقرع أجراسها لجنة بيكر - هاملتون؟. فالمسألة فعلاً مضحكة/ مبكية بسبب اعتماد التقرير أساليب المناورة واللف والدوران حول «أم الاقتراحات» وهو تحديد موعد زمني للانسحاب. وبسبب تجاهل هذه النقطة يمكن القول إن بوش يستطيع الآن التعامل مع اقتراحات التقرير الذي اعتبره قاسياً بارتياح ومن دون ضغط مباشر. فاللجنة اعطته فرصة للمناورة. فالتقرير ليس الزامياً وفي الآن لا يستطيع تجاهله أو إهماله أو رميه في سلة القمامة، ولكنه يستطيع اخذ وقته لدراسته وتقليبه وتلغيمه بأفكار واقتراحات مضادة.
بوش عليه الآن ان يتعاطي مع 79 اقتراحاً وأمامه فرصة زمنية تزيد قليلاً على السنتين لمعالجة كل قضايا المنطقة. وهذا طبعاً من الأمور المستحيل تنفيذها حتى لو وافقت الإدارة عليها كلها وبدأت تطبيقها منذ أمس. وحين تكون الاقتراحات كثيرة والوقت المتبقي ليس كافياً والنقطة المركزية في الموضوع ليست واردة في التقرير فمعنى ذلك أن مجالات المناورة لاتزال مفتوحة أمام بوش بدءاً من تحديد موعد الانسحاب وصولاً إلى ذاك «الحريق الإقليمي» الذي توقع حصوله وزير الدفاع الجديد في حال فشل المشروع الأميركي في العراق
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1555 - الجمعة 08 ديسمبر 2006م الموافق 17 ذي القعدة 1427هـ