العدد 1554 - الخميس 07 ديسمبر 2006م الموافق 16 ذي القعدة 1427هـ

الديمقراطية الإسلامية بين الحقيقة والخيال (1-2)

علي بايا comments [at] alwasatnews.com

.

التحدي الذي يواجه المفكرين المسلمين هو تطوير تركيب مناسب للديمقراطية الإسلامية قادر على الوفاء بأغراضه الأصلية، أي إقامة نظام حكم كفء وفعال، نظام يتناسب مع ثقافة وظروف المجتمعات الإسلامية المعاصرة ولا يقل في الوقت نفسه عن النماذج المماثلة في المجتمعات المتقدمة.

انقضى نحو قرن ونصف القرن منذ أن دخل مفهوم «الديمقراطية» والمفاهيم المرتبطة به في الخطاب السياسي الإيراني. منذ منتصف القرن التاسع عشر حاول مؤيدو الديمقراطية الإيرانيون تطوير معادلات نظرية لصون حقوق الأفراد وتحديد سلطة الدولة، كما فعل مستشار الدولة ميرزا يوسف في كتابه «كلمة واحدة» لكن على رغم مرور وقت طويل نسبياً، وعلى رغم كفاح الإيرانيين المتواصل لإيجاد مجتمع يقوم على المساواة والمشاركة الفاعلة والمؤثرة للشعب وحاكمية القانون، فإن مكانة الديمقراطية كنظام لإدارة الشأن العام لم تترسخ في المجتمع وبقيت حتى اليوم محلاً للجدل.

الديمقراطية

«الديمقراطية» هي واحدة من الكثير من المباني الاجتماعية التي أبدعها الإنسان لتسهيل حياته الاجتماعية وخصوصاً ما يتعلق منها بإدارة الأمور الاجتماعية - السياسية للجماعة. وخضعت هذه الماكنة منذ ظهورها أول مرة للكثير من التغييرات والتعديلات. خلال قرون من الزمن أضاف الإنسان وظائف جديدة إلى هذه الماكنة كما حذف وظائف أخرى اقل جاذبية في سبيل تحسين كفاءتها وأدائها.

حدد لينز وستيبان (Linz and Stepan 1996) خمسة نطاقات عمل أولية للديمقراطية الحديثة، في كل نطاق ثمة مفهوم قاعدي هو مرجع لتحديد ومعايرة الوظائف التي تؤديها الديمقراطية في ذلك النطاق. هذه النطاقات والمفاهيم (الخصائص) قد لا تكون كاملة أو كافية، لكنها تعتبر ضرورية كي يتحقق وصف الديمقراطية. وهي خصائص مترابطة عضويّاً ومتفاعلة مع بعضها:

النطاق، المفهوم القاعدي المنظم للعمل، المجتمع المدني، حرية التجمع والتنظيم والاتصال، المجتمع السياسي، المنافسة الانتخابية الحرة والشاملة، حاكمية القانون، النظام الدستوري، جهاز الدولة، أعراف بيروقراطية قانونية - محلية، المجتمع الاقتصادي سوق ممؤسسة.

من زاوية كونها نظاما لإدارة الشئون العامة للدولة والمجتمع، تتنافس الديمقراطية مع نماذج حكم أخرى مثل الجبرية، الشمولية، ما بعد الشمولية، والسلطانية. تتفاوت هذه النماذج في مقاربتها لمسائل مثل الايديولوجيا، التعددية، القيادة، والحركية العامة. تترسخ الديمقراطية في أي ارض تتطابق توجهات وسلوكيات غالبية سكانها مع المعايير الخاصة بها:

- على المستوى السلوكي: تترسخ الديمقراطية في مجتمع معين حين يجمع أعضاء الجماعة أو نسبة معتبرة منهم على حل مشكلاتهم من خلال الطرق الديمقراطية. بعبارة أخرى حين لا تكون في النظام الاجتماعي انشقاقات خطيرة، كما يتمثل في حال اتجهت قوى مؤثرة على المستوى الوطني أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو المؤسسي إلى صرف موارد مؤثرة في سبيل فرض مراداتها أو نيل غاياتها من خلال إقامة نظام غير ديمقراطي أو من خلال اللجوء إلى العنف أو استقطاب تدخل خارجي للانفصال عن الدولة.

- على مستوى التوجهات: يترسخ النظام الديمقراطي حين تميل أكثرية مؤثرة في المجتمع إلى الاعتقاد بأن السبل والمؤسسات الديمقراطية هي الطريق الأمثل لإدارة الحياة الجمعية في مثل مجتمعهم، وحين يكون المعارضون لهذا النظام أقلية صغيرة أو غير مؤثرة أو معزولة.

- على المستوى الدستوري: يترسخ النظام الديمقراطي حين تميل جميع القوى الحكومية وغير الحكومية على السواء وعلى امتداد إقليم الدولة، إلى حل الخلافات والتعارضات التي ربما تحدث بينهم، في إطار القانون العام وما يرتبط به من الإجراءات والمؤسسات الموصوفة بالديمقراطية.

المباني الاجتماعية

... القيم والأعراف

تساءلنا في التمهيد عما أذا كان ثمة شيء يمكن تسميته بالديمقراطية الإسلامية واعتبرناه السؤال المركزي لهذا المقال. للإجابة على هذا السؤال يجب الأخذ في الاعتبار أن المباني المجتمعية يمكن أن تصنف من جانب أفراد المجتمع على أنحاء شتى. يمكن مثلاً تصنيف المباني المجتمعية طبقاً لغاياتها والأغراض المنسوبة إليها، ويمكن أن تصنف باعتبارها منظومة من الوسائل وأدوات العمل، أو ربما تصنف باعتبارها منظومات من التقنيات. مثال على ذلك، إذا صنفنا الكمبيوتر تبعاً للغرض منه، فسنضعه في خانة واحدة مع آلات المحاسبة القديمة والجديدة. وإذا صنفناه كأداة عمل فسينضم إلى مجموع الأجهزة الالكترونية السريعة، وعند تصنيفه تبعاً لتقنياته فسيعتبر من بين المنظومات الخوارزمية المعقدة.

لا شك انه بالوسع إضافة تصنيفات أخرى للمباني المجتمعية، لكننا سنركز على نوعين فقط من التصنيفات. يجمع الصنف الأول جميع المباني التي يمكن اعتبارها أدوات بحتة instruments. بينما يجمع الصنف الثاني تلك المباني التي تلعب القيم الاجتماعية دورا محوريا في معايير تصنيفها. بعبارة أخرى سنتعامل مع المباني الاجتماعية باعتبارها إما أدوات عمل محايدة أو أدوات مشحونة بقيم المجتمع، أي غير محايدة. على سبيل المثال فإن السكين يمكن أن تصنف كأداة بحتة لقطع الأجسام المادية، كما يمكن آن تصنف على الوجه الثاني كـ «سلاح مقدس». إذا اعتبرناها مجرد أداة، فإن السكين الصينية أو الأميركية أو المصرية لا تختلف عن بعضها إلا من حيث فعلها (الموضوعي) كوسيلة قطع. أما إذا اعتبرناها سلاحاً مقدساً فكل من تلك السكاكين تحمل قيمة قد تختلف كليّاً عن نظيرتها.

يمكن تطبيق الوصف نفسه على الديمقراطية كمبنى اجتماعي. فمن وجهة نظر معينة، تعتبر الديمقراطية وسيلة عمل بحتة، مثل ماكنة تؤدي وظائف معلومة. ومن وجهة نظر مقابلة فإن هذه الماكنة نفسها قد تحمل معها قيماً أضافها أعضاء الجماعة إليها كي تبدو على صورة معينة أو تخدم غرضاً معيّناً في ظرف خاص. من هذه الزاوية فإنه يمكن تصور «نماذج» متعددة من الديمقراطية تتمايز عن بعضها من زاويتين: من زاوية وظيفية بحتة، أي بالنظر الى كونها أداة محايدة، ومن زاوية قيمية، أي بالنظر الى كونها تحمل أو تستهدف تجسيد قيم معينة.

مثلما توجد موديلات وأنواع كثيرة من السيارات، فهناك أيضا موديلات (نماذج) كثيرة من الديمقراطية. كمثال فإنه يمكن الحديث عن ديمقراطيات ليبرالية (John Gray, 1989) كما تذكر أنواع متفاوتة من الديمقراطيات الاجتماعية أو الديمقراطية الليبرتارية وما إلى ذلك. كل واحدة من هذه المكائن تشترك في عدد من الوظائف والخواص الأساسية التي تسمح بتصنيفها جميعا كنموذج ديمقراطي في المقام الأول، لكنها تتمايز فيما بينها بالنظر إلى كفاءتها الوظيفية instrumental أو القيم المضافة إليها. لهذا السبب فإنه يمكن الحديث عن ديمقراطية إسلامية أو - بكلمة أدق - ديمقراطيات إسلامية. كل هذه المكائن التي صنفت تحت الاسم النوعي «ديمقراطية إسلامية» تشترك من حيث وظائفها الأساسية مع النماذج الأخرى للديمقراطية في عدد من الخصائص المهمة.

الديمقراطيات الإسلامية كبرنامج بحث متصاعد أو متناقص

الغرض الأساسي من إقامة الديمقراطيات هو إدارة الشئون العامة للمجتمع، وفي هذا المجال فكل نموذج منها يتنافس مع الآخر كما تتنافس كمجموع مع نماذج الحكم والإدارة الأخرى. التحدي الذي يواجه المسلمين اليوم هو إنتاج نموذج للديمقراطية الإسلامية قادر على تسوية مناسبة بين القيم المحلية والخاصة بالإسلام من جهة والقيم الكونية الحديثة من جهة أخرى. أحد الأغراض الرئيسية لنموذج من هذا النوع هو استقطاب أوسع ما يمكن من الشرائح الاجتماعية للمشاركة النشطة والبناءة في جميع مناحي الحياة والشئون العامة وصناعة القرار الذي يتعلق بحياتهم ومستقبلهم.

هذا النظام يشترك مع النظم الديمقراطية المطبقة في المجتمعات المتقدمة (غير الإسلامية) في عدد من الوظائف الأساسية الضرورية كي يحافظ على هويته كديمقراطية حقيقية، لكنه يتمايز عنها بمنظومة من القيم التي تعكس الأحاسيس أو التوجهات الخاصة بأفراد المجتمع الذين طوروا هذا النموذج أو شاركوا فيه

إقرأ أيضا لـ "علي بايا"

العدد 1554 - الخميس 07 ديسمبر 2006م الموافق 16 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً