ديمقراطية لبنان، التي تتلاعب بها الرؤوس الساخنة هذه الأيام، هل تقدم إلينا دليلاً صحياً على مزايا الحرية، أم بالعكس تعطينا درساً مضاداً، يستغله المستغلون لإجهاض الحلم الديمقراطي في العالم العربي بكامله... يستغلونه ضدها وضدنا؟
بدايةً أرجو ألا يغضب منا اللبنانيون هذه المرة أيضاً؛ لأننا نحن الذين نغضب منهم ونغضب لهم وعليهم؛ لأنهم ببساطة لم يحافظوا لنا ولأنفسهم، على لبنان المأمول، نموذجاً لديمقراطية حقيقية وفريدة في صحراء الاستبداد، فنحن نعجب بالديمقراطية اللبنانية، ولكننا نخاف عليها من ممارساتها الراهنة، وننكر على اللبنانيين المنقسمين على أنفسهم، ما يفعلونه الآن بتحويل النموذج الديمقراطي إلى نموذج للصراع والانقسام، الذي قد يقود إلى التقسيم على أسس طائفية وكأن نموذج العراق وفق الديمقراطية الأميركية لا يكفي!
وما يفعله الفرقاء اللبنانيون اليوم يصدمنا مرتين، مرةً بانقضاضهم على الممارسة الديمقراطية بهذا الشكل العصبي وإجهاضهم الحلم العربي، ومرةً ثانيةً بتقديمهم مبرراً للاستبداد العربي لكي يستمر في استبداده، حين يقول لنا: أليست هذه هي الديمقراطية اللبنانية التي كنتم تتفاخرون بها؟ انظروا كيف فعلت بلبنان، وكيف جرته إلى الانفلات والفوضى الصارخة؟
من هنا يأتي عتابنا على اللبنانيين وخوفنا على نموذجهم الفريد وسط الأنواء التي تعصف به وبنا، حين ننظر بجزع شديد وحزن كبير، إلى ارتداد لبنان إلى الحضن الدافئ للشمولية العربية، القائمة تقليدياً على قاعدة الدكتاتور الأوحد، فإذا بديمقراطية لبنان تتمزق على قواعد الكثير من الدكتاتوريين، ملوك الطوائف، في فسيفساء هشة ملونة، تضم 18 طائفة وارثة لكل أمراض حكم القبيلة وموروثاتها في الحكم!
لبنان يغرق في أمواج حرب المظاهرات والاعتصامات، وهي أمواج يراها البعض تعبيراً حقيقياً عن الحرية، حرية التظاهر وحرية التعبير، وحرية تغيير النظم والحكومات عبر الشارع، ويراها البعض الآخر انقلاباً على الديمقراطية وتجنيداً للشارع «الغوغائي» لكي يحكم المستفيدون فوق جثة الدستور!
غير أننا لا يجب الاكتفاء بنظرة سطحية أو عابرة إلى ديمقراطية التظاهر، لنحكم على الديمقراطية اللبنانية التي ظلت على مدى نحو ستين عاماً هي عمر الاستقلال، رئة للحرية العربية، ونموذجاً للتوافق العرقي والطائفي والسياسي أيضاً، يقوم على تعايش مشترك من ناحية، وعلى ضمانات خارجية عربية ودولية من ناحية أخرى.
بل يجب أن نتفحصها عبر منظور أعمق، إذ إنها ديمقراطية قامت منذ الاستقلال حتى اليوم على قاعدة تقاسم المغانم والمصالح، وعلى توازن القوى وتوزيع المناصب، بين الطوائف الكثيرة التي تضم المسلمين والمسيحيين والسنة والشيعة والدروز، والموارنة والارثوذوكس وغيرهم، وهي قاعدة كما نرى لم تسمح لهذه الطوائف، عبر الممارسة وبمضي السنين، بالاندماج في نسيج وطني متعايش تغلب مصالحه وأهدافه العليا على مصالح طوائفه!
وما يجري اليوم هو ترجمة حرفية لسلبيات التقاسم الطائفي «باسم الديمقراطية» الذي أصبح بديلاً للوحدة الوطنية، وتغليباً لوحدة الطائفة ومصالحها، على وحدة الوطن، وإعلاء مصالح ابن الطائفة على مفهوم المواطنة الأشمل والأعم، وهي تركيبة تصطدم بالصخر الناري، عند أول اختلاف، ورأينا ذلك كثيراً، على رغم أن معظم المفسرين اللبنانيين خصوصاً، يرونها نموذجاً ناجحاً للتعايش الطائفي في حين تثبت التجربة بعد الأخرى أنها عوقت فكرة الوطن الواحد الحافظ لحق المواطنة.
وحين نتأمل ما يجري في الشارع اللبناني هذه الأيام، من صراع المظاهرات الطافي على سطح التطورات، نجد صورة يختلف عليها كثيرون ويحار فيها العرب والعجم، إذ إن مظاهرات الشارع التي تمارس حرية التعبير عن قوى سياسية وطائفية، كانت هي التي أسقطت في العام الماضي حكومة الرئيس عمر كرامي، وجاءت بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وهي التي حاصرت نفوذ رئيس الجمهورية إميل لحود وشرعيته داخل قصر بعبدا فقط، وهي التي أدانت سورية بقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، الأمر الذي أسهم في إجبار سورية على سحب قواتها (نحو 35 ألف جندي) من لبنان، بعد عقود ثلاثة تقريباً من وجودها هناك بقرار عربي.
الآن انقلبت الآية، إذ مظاهرات الشارع هذه الأيام هي التي تحاصر حكومة السنيورة لإسقاطها وهي التي تنزع عنها الشرعية، وهي التي تعطل المؤسسات بما فيها البرلمان، وهي بالتالي المتهمة من حكومة السنيورة وحلفائها الكثيرين، بأنها تنقلب على الشرعية وتخرق الدستور وتدمر الديمقراطية. ولم يكن ليحدث هذا الانقسام لولا مساندة من خارج الحدود على الناحيتين إذ إن تحالف 14 آذار - الذي يضم جماعات النائب سعد الحريري (سني) والنائب وليد جنبلاط (درزي) وسمير جعجع (ماروني) وغيرهم - متهم بأنه يستمد شرعية وجوده في الحكم عبر رئيس الوزراء فؤاد السنيورة (سني) من الدعم الأميركي الفرنسي، ناهيك عن الرضا الإسرائيلي.
بينما تحالف المعارضة المضاد، الذي يضم حزب الله بزعامة السيدحسن نصرالله (شيعي) والجنرال عون (ماروني) ونبيه بري (شيعي) وعمر كرامي (سني) وغيرهم، متهم هو الآخر بأنه يستند إلى النفوذ السوري الإيراني، وبالتالي فإن النموذج الديمقراطي اللبناني، ومصير لبنان كله قد سقط فريسة الاستقطاب الحاد، بين التحالف الأميركي الأوروبي من ناحية، والتحالف السوري الإيراني من ناحية، وأصبح الشارع اللبناني ساحة لممارسة صراع القوى بين هذا وذاك من خلال الأطراف الطائفية المحلية، بينما العرب بكل دولهم وطوائفهم غائبون مغيبون، ربما ابتعاداً عن الصداع والصراع، وربما رغبة محمومة لوأد الديمقراطية اللبنانية التي تعدي وتنشر العدوى بفيروساتها المتطايرة. وأدى الفشل في تحويل التعايش الطائفي، إلى وحدة وطنية مندمجة تكفل حق المواطنة للجميع على أسس من العدل والإنصاف، جنباً إلى جنب التدخل الخارجي، الإقليمي والدولي، إلى تحويل لبنان من بوتقة للحريات ونموذج للديمقراطية المعدية، إلى ساحة مفتوحة لصراعات القوى الداخلية والخارجية على السواء، يحكمها العنف وقوة السلاح، أكثر مما يحكمها القانون وشرعية النظام الدستوري السليم.
وحين نستعرض تاريخ العقود الستة منذ الاستقلال اللبناني، نلاحظ أن العنف واللجوء للسلاح، هو الذي تفوق بل هو الذي حكم ويحكم التوازن أو عدم التوازن بين الطوائف، بعد أن تلقى المدد والمساندة من خارج الحدود، ولم تكن الحرب الأهلية الضروس التي اندلعت في منتصف السبعينات واستمرت 17 عاماً من القتل على الهوية سوى إحدى التجليات ولم يكن اغتيال رئيسين للجمهورية بصورة متتالية (بشير الجميل ثم رينيه معوض) وهما من الموارنة واغتيال رئيسين للوزراء (رشيد كرامي ثم رفيق الحريري) وهما من السنة فضلاً عن اغتيال عشرات من السياسيين والصحافيين والمثقفين، من دون المساس بنانسي عجرم وهيفاء وهبي وكازينو لبنان، سوى إضافة الى هذه التجليات المفزعة، التي تضيف الى النار وقوداً حارقاً بالتفجيرات المدمرة!
ولا يكفي هنا أن نلقي العبء كله على التدخل الخارجي، سورياً وإيرانياً كان، أو أميركياً وفرنسياً وإسرائيلياً، على رغم الاعتراف بثقل هذا التدخل وتأثيراته، لكننا نعتقد أن العبء الحقيقي تتحمله الطوائف اللبنانية، التي تقاتل للاحتفاظ بهويتها ومصالحها وامتيازاتها، والتي مازالت تفضل «الاستقلالية الطائفية» على الوحدة الوطنية، والتي تتمترس بأسلحتها خلف مواقعها السياسية والجغرافية، وتسعى دوماً الى الاستعانة بظهير ونصير من خارج الحدود.
وفي حين تتفاخر هذه الطوائف المتمترسة في خنادقها، بأنها بنت نموذج الديمقراطية اللبنانية، على قاعدة التعايش والتوافق وعلى قاعدة التقاسم، تقاسم المصالح والمناصب والثروات، فإننا نعتقد أن هذا بالضبط هو سبب سقوط الديمقراطية اللبنانية في فخ العنف والاقتتال المتوالي واللجوء إلى السلاح كلما لاح خلاف في الأفق، وكلما انطلقت حرب المماحكات والاحتكاكات، مؤذنة بحرب المظاهرات والاعتصامات، فالانقلابات السياسية حتى العسكرية!
وقد كانت الفرصة التاريخية متاحة أمام التجربة اللبنانية، لتحقيق انجاز «الوحدة الوطنية» على قاعدة حق المواطنة المتساوية، حين تعرضت للعدوان الإسرائيلي، وخاضت ضده مقاومة باسلة في ثلاث حالات مشهورة، أولها حين غزت «إسرائيل» لبنان العام 1982، وثانيها حين أجبرت المقاومة الوطنية «إسرائيل» على الانسحاب من جنوب لبنان العام 2000، وثالثها حين تمكنت المقاومة ممثلة في حزب الله من الصمود على مدى 33 يوماً، أمام الهجوم العدواني الإسرائيلي هذا العام، فأعادته منكسراً إلى ما وراء الحدود!
لكن للغرابة، حوّل فرقاء الطوائف هذه الفرص التاريخية، إلى وليمة لاقتسام المغانم من ناحية، وللهروب من المغارم من ناحية أخرى، وراح كل فريق يفرض شروطه على الآخرين، مرة عاشرة استناداً إلى دعم وتشجيع خارجيين، وأصبح لبنان مقسماً بين الموالي والمعارض، وأصيبت المؤسسات السياسية والاقتصادية بالشلل، فاتحة الباب، لمزيد من التدخل الخارجي لإنقاذ الموقف، أو ربما لانقلاب عسكري لحماية البلد من الفوضى ناهيك عن شماتة الاستبداد العربي!
من هنا يأتي غضبنا من اللبنانيين وعليهم، فقد حرمونا حتى من الحلم الديمقراطي الحقيقي، وأغلقوا أمامنا آخر باب للأمل في أن تتأسس النظم العربية المستبدة، بالديمقراطية اللبنانية، بعد أن قدموا الى هذه النظم كل المبررات لكي تبقى على حالها من الفساد والاستبداد، مستفيدة من إجهاض الطوائف للتجربة الديمقراطية العربية الفريدة!
المؤكد أن لبنان ستهدأ ساحاتها المضطربة غداً أو بعد غد بمبادرة داخلية أو بتدخل خارجي، لكن الخوف كل الخوف، أن تعود الطوائف إلى تعايشها الهش، على حساب وحدة الوطن وقوة الدولة، وأن يعود ملوك الطوائف إلى سيرتهم الأولى محتمين بالسلاح خلف المتاريس العشائرية والقبلية، دفاعاً عن قوة الطائفة لا عن وحدة الدولة.
فليتفهمنا الفرقاء اللبنانيون إن قلنا إنهم خذلونا في وقت كنا ننتظر منهم أن يساندونا، في التقدم نحو الديمقراطية الحقيقية!
خير الكلام:
يقول الشاعر اللبناني خليل مطران:
أخمدوا الأنفاس هذا جهدكم
وبــه منجاتنــا منكــم فشــكرا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1552 - الثلثاء 05 ديسمبر 2006م الموافق 14 ذي القعدة 1427هـ