لاشك في أن رئيس الحكومة الإسرائيلي ايهود أولمرت يراقب المشهد اللبناني ويتابعه يومياً من على شاشات التلفزة والفضائيات. فأولمرت منذ أن تلقى تلك الصفعة الاستراتيجية بعد عدوانه في 12 يوليو/ تموز الماضي وقع في حيرة من أمره فهو يقول «إنه انتصر» والرئيس الأميركي جورج بوش وافقه الرأي حين أكد أن «إسرائيل» انتصرت ويحتاج الشعب اللبناني فترة من الوقت لاكتشاف الأمر. إلا أن حملة النقد الداخلية التي واجهت أولمرت بعد وقف إطلاق النار أربكته. فالتحليلات الصحافية قرأت الحرب من وجهة نظر سياسية ووجدت أن تل أبيب فشلت في تحقيق أهدافها وخصوصاً في النقاط الثلاث الأساسية. والنقاط اشتملت تصفية قيادات حزب الله وهذا لم يحصل، وتدمير البنية التحتية للحزب وهذا لم يحصل، وأخيراً تجريده من سلاحه وهذا أيضاً لم يحصل.
وبسبب هذه النقاط توصلت القراءات الإسرائيلية النقدية للحرب إلى نتيجة مفادها أن أولمرت فشل في معركته. وبناء على هذه الخلاصة السياسية انطلقت حملة نقد للمؤسسة العسكرية فاتهمت بالتقصير وعدم الجاهزية وإهمال القوات البرية والاعتماد المفرط على القوات الجوية. كذلك كشفت التحليلات النقدية عن وجود خلل في الجهاز العسكري وضعف في التوجيهات وعدم وضوح الرؤية في تحديد الخطوات والتعارض بين وزير الدفاع وأوامره من جهة وتوجيهات رئيس الأركان الميدانية من جهة أخرى.
أولمرت منذ تجميد إطلاق النار في 14 أغسطس/ آب الماضي وقع في حيرة من أمره وتعرض إلى سيل من الانتقادات طالبته بالاستقالة أو البحث عن وزير دفاع يملك خبرة أو تبديل قيادة الأركان وإعادة النظر في التكتيكات المتبعة في التعامل العسكري مع الجبهة اللبنانية. مقابل هذه الموجة من الانتقادات تمسك أولمرت بوجهة نظره عن «الانتصار» ورفض الاستجابة لدعوات الاستقالة وأقدم على توسيع حكومته بإدخال الوزير الأكثر تطرفاً في سلوكه ورؤيته للتعاطي مع دول المنطقة.
استند أولمرت في رده على الانتقادات إلى حزمة من الأفكار منها أن «إسرائيل» نجحت في إبعاد قوات حزب الله من الجنوب إلى الداخل اللبناني وأقدمت على تغيير قواعد اللعبة حين صدر عن مجلس الأمن القرار 1701 الذي يشتمل على نقاط يعطيها حق الرد بذريعة الدفاع فضلاً عن توسيع مهمات وعدد وعتاد القوات الدولية. وهذه برأيه مكاسب سياسية كافية لضمان أمن «إسرائيل» وحماية حدودها الشمالية من خلال هدنة طويلة تشبه تلك الاتفاقات الموقعة مع الدول العربية التي تحيط بدولته.
الجدل في «إسرائيل» كشف عن وجود أكثر من وجهة نظر بين رأي يقول إن أولمرت انهزم ورأي آخر يرى أن الأهداف السياسية المرحلية من وراء الحرب تحققت. وبين هذا وذاك تبلورت تفاهمات نقدية تقوم على فكرة أن أداء الجيش لم يكن على السوية المتوقعة ولابد من إعادة تأهيله وتدريبه ليكون في موقع الجاهزية السياسية والعسكرية. وهكذا تم التفاهم على وجود نوع من الارتباك السياسي في التوجيهات انعكست عسكرياً على جبهة القتال الأمر الذي فاقم من مشكلة المواجهات الميدانية.
لبنان الضحية
مقابل هذا النقاش النقدي المعلن وما رافقه من تشكيل لجان لدراسة النواقص والتقصير حصل في لبنان العكس وجاءت التوقعات تخالف النتائج. وبدلاً من استثمار الموقعة العسكرية ايجابياً تحول النقاش إلى نوع من الاستقطاب الأهلي وبدأ التراشق بالاتهامات وصولاً إلى التشكيك والتخوين.
في لبنان لم تحصل تلك الموجة النقدية بسبب حساسية الوضع الداخلي وانهيار الدولة (الضعيفة والمشلولة أصلاً). فهذا البلد الصغير والجميل يقوم على توزيعات طائفية / مذهبية تمنع أصلاً تطور الفكر النقدي وتقمع كل محاولة لإعادة التفكير بسبب احتمال انحراف النقاش عن سكته وتحوله إلى تراشق طائفي/ مذهبي.
مشكلة البلد تبدأ من هذه الزاوية التي تأسست عليها دولة تراعي المشاعر الضيقة خوفاً على السلم الأهلي. وبسبب الحرص السياسي على التوازن الداخلي ودقة تعاملاته تعرضت الهوية الوطنية الجامعة إلى أزمات دائمة منعتها الاستقطابات الأهلية من التبلور والتطور.
في لبنان لا توجد نظرة وطنية مشتركة لكل الأمور. لذلك لجأت الدولة دائماً إلى التوفيق والتلفيق بين مصالح الطوائف والمذاهب والمناطق. وبسبب هذه النزعة التبسيطية للأمور نهضت في البلد «هويات» صغيرة وضيقة تعطل امكانات التوصل إلى هوية مشتركة وجامعة للمشاعر والمصير.
هذا الانقسام الأهلي هو ما كان يراهن عليه أولمرت حين أعلن أنه «انتصر» وحقق أهداف «إسرائيل» المرحلية على الحدود الدولية. فالإعلان عنه وكما يبدو من وقع تداعيات الحرب الداخلية ومراهنات تل أبيب على نقل المشكلة من حدودها إلى حدود الطوائف والمذاهب والمناطق اللبنانية، تعيد صوغ السؤال عن هوية الطرف المنتصر. وربما ترجيح هذا الاحتمال السلبي هو ما قصده بوش في كلامه حين أعلن عن انتصار «إسرائيل» معتبراً أن الشعب اللبناني يحتاج إلى وقت لإدراك المسألة.
مضى الآن أكثر من مئة يوم على وقف العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان، وبدأت تظهر عوارض الحرب وسلبياتها وتداعياتها على الانقسامات الأهلية (الطائفية والمذهبية والمناطقية) التي أخذت تتجاذب البلد الصغير والجميل من جنوبه إلى شماله ومن شرقه إلى غربه.
لبنان الآن على شفير الهاوية وبات على قاب قوسين من السقوط في المصيدة الأهلية التي يبدو أن واشنطن راهنت عليها حين قررت إدخال البلد الصغير والجميل في استراتيجية التقويض التي تعتمد تكتيك «الفوضى البناءة». وكما يبدو أن الفوضى بدأت بينما الهدم لا البناء سيكون هو الوجه الآخر لهذه الفوضى. ما يحصل الآن في لبنان هو استكمال ما تبقى من هدم وحرق لأبنية حجرية وسكانية وعلاقات أهلية عجزت «إسرائيل» عن تقويضها خلال عدوانها الذي استمر نحو 34 يوماً.
لاشك في أن أولمرت يراقب منذ أكثر من مئة يوم تشنجات الحال الأهلية في لبنان ويتابع لحظة بلحظة تداعيات عدوانه للحصول على الجواب النهائي للسؤال المحير: من انتصر في الحرب؟
الجواب العسكري ليس مهماً لديه. المهم أن لبنان كان الضحية السياسية لتلك الحرب
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1548 - الجمعة 01 ديسمبر 2006م الموافق 10 ذي القعدة 1427هـ