هل ينزلق لبنان نحو الاقتتال الأهلي أم أن مجالات تسوية اللحظات الأخيرة لاتزال واردة؟ المؤشرات العامة تدل على أن القوى المحلية وصلت إلى الأبواب المسدودة وأن احتمالات الارتداد السياسي على الداخل باتت هي المرجحة.
لبنان إذاً مقبل على الدخول في نفق مظلم. والنفق قد تكون مسافته طويلة أو قصيرة بحسب ما تفرضه التوازنات المحلية والإقليمية والدولية. فكل الأمور تدل على أن أدوات المواجهة الداخلية باتت جاهزة وتنتظر منذ فترة فتيل الاشتعال وبعدها تأخذ النيران مداها الجغرافي والبشري.
أخطر خطوة في الاقتتال الأهلي هي الأولى وبعدها تأتي الخطوات اللاحقة. فالخطوة الأولى تكون واعية ومنظمة ومدروسة ولكن الخطوات التالية تتحرك آلياً وخارج السيطرة لأن قوانين الاقتتال الأهلي تختلف عن الحروب النظامية ضد الجيوش أو بين الدول. الحروب التي تنشب بين الدول على الحدود أو ضد بعضها يمكن التحكم بمفاعيلها بينما الاقتتال الأهلي يحتاج إلى خطأ واحد وهو الانزلاق نحو قرار المواجهة الداخلية وبعدها تخرج الحرب عن نطاق السيطرة وتبدأ بالتلون والتلوث بعصبيات الشارع.
الحرب ضد «إسرائيل» أسهل وأوضح ومفهومة ويمكن التحكم بمداها الزمني والجغرافي والتنظيمي بينما الانزلاق إلى مواجهة داخلية في بلد محقون بالطائفية والمذهبية والانقسامات الضيقة يدخل كل القوى في قنوات لولبية خانقة تصبح مع توالي الأيام صعبة وغامضة وغير مفهومة.
لبنان الآن ينتظر ذاك الخطأ القاتل الذي يتمثل بالخطوة الأولى وبعدها سيدخل البلد الصغير والجميل في أتون اقتتال، نعرف كيف يبدأ ولكننا لا نعرف كيف سينتهي. الحروب تبدأ عادة من الاشياء الصغيرة وتنتهي إلى قضايا كبرى ومعقدة. فهي تنطلق بسيطة وتسقط كبيرة. والاقتتال الأهلي أسوأ لانه يبدأ بنقاط صغيرة مثل تمثيل الجنرال ميشال عون بوزير أو وزيرين ثم بالثلث المعطل (المشارك أو الضامن) ثم الانسحاب في ظل دعوات تشكيل «المحكمة ذات الطابع الدولي» . هذه التشنجات المتبادلة رفعت من حرارة التوتر ولا يستبعد الآن الانسياق إلى مواجهة منظمة وأخيراً التدحرج إلى مستويات غير محسوبة تنسب عادة الى جهات مجهولة العنوان والاسم والهوية أو «الاطراف الثالثة» أو «الطوابير الخامسة» إلى ان تكفهر الأجواء وتتلبد السماء وتفقد القوى المحلية سيطرتها على توجيه الشارع.
هذا الأمر حصل في لبنان في العام 1975 حين أخذت الاحتقانات تتفجر هنا وهناك وكان بالإمكان احتواء تداعياتها ثم أخذت كرة النار تتدحرج وتحرق الأمكنة إلى أن امتدت النيران وعفست الأخضر واليابس.
كل الأطراف المحلية آنذاك لم تتصور لحظة ان ما حصل كان سيحصل. فالكل كان يعتبر أنه على حق وهو الأقوى في المعادلة وان الآخر ضعيف. والكل اعتقد انه سيسجل الانتصار الساحق في بضعة أيام. فالاعتداد بالنفس والزهو بالذات والاستخفاف بقدرات الآخر شكلت لوحة خاطئة في حساباتها. فالأيام تحولت إلى أسابيع، والأسابيع الى شهور، والشهور الى سنوات.وخلال هذه الفترة الطويلة والممتدة خرجت قوى من المعادلة ودخلت غيرها وسقطت وجوه وتبدلت تحالفات وتغيرت معالم واستمرت الحرب من دون توقف إلى أن تعب الأطراف وتوصلوا إلى قناعة بأن هناك ما يشبه الاستحالة في هزيمة فريق أو تحقيق انتصار. وانتهت المواجهات إلى معادلة «لا غالب ولامغلوب».
الآن يبدو أن قوى لبنان عقدت العزم على تكرار التجربة. ويبدو ان لكل جيل تجربته وكل فريق لا يريد التعلم من تجربة غيره. فهناك وجوه جديدة وهناك وجوه قديمة ولكن قوانين اللعبة وقواعد الاندفاع نحو الاصطدام لم تتغير كثيراً. فالكل خائف والكل واثق من قوته والكل يستخف بقوة الآخر. وهذه الشروط الذاتية تكفي مجتمعة لجرجرة لبنان إلى محرقة جديدة.
محرقة لبنانية
لماذا محرقة جديدة؟ الأمور تبدو واضحة من متابعة السياق الدولي والاقليمي والاسرائيلي. فالأطراف تبدو جاهزة ومستعدة وترى ان مصلحتها تقضي بذلك. الحجرة العثرة كانت داخلية وكان لا بد من طبخها على نار أخذ لهيبها يرتفع ووصل الآن إلى درجة الغليان. وبعد الغليان يبدأ تبخر العقول والمنطق لتخرج «الخفافيش» من أوكارها وتأخذ زمام المبادرة وتقود الشارع بحسب أهواء الملل والنحل.
هناك محرقة تنتظر هذا البلد الصغير والجميل اذا لم تسارع العقول الحامية إلى تبريد الاجواء. والمشكلة ان الحل الدستوري لن يجد طريقه القانوني .مثلا اذا سقطت حكومة فؤاد السنيورة فإن امكانات تشكيل حكومة بديلة تصبح صعبة. وهذا سيدخل البلد في فراغ دستوري يفتح الباب أمام دعوات التدخل الخارجي أو الأجنبي أو على الأقل انقسام القرار المحلي إلى سلسلة مراكز قوى متناكفة.
يتوقع أن يحصل هذا الأمر اذا سارت الأمور في طريقها الحسن. اما اذا انعطفت التداعيات في سياقات غير حسنة فمعنى ذلك ان البلد سيدخل في مواجهات سياسية أهلية يصعب ترسيم حدودها منذ الآن، ولكن يمكن رسم تصورات لها في أوضاع مختلفة.
هناك أولاً وضعية الانقسام العمودي بين المسلمين والمسيحين .وهذه الوضعية اتخذت اشكالها السياسية في الحروب الأهلية والاقليمية السابقة وتشكلت في ضوء انقساماتها مناطق واضحة المعالم في تركيبها الطائفي وغالبيتها المذهبية.
هناك ثانياً وضعية الانقسام الافقي داخل المسلمين من جهة وداخل المسيحيين من جهة أخرى. وهذه الوضعية أخطر من الحروب السابقة لأنها ستؤدي إلى تشطير البلد الجميل والصغير إلى دويلات وأحياء ومناطق مغلقة على نفسها.
هناك ثالثاً وضعية التدخلات الخارجية (الحدودية أو البعيدة المدى). وهذا يعني إعادة تأسيس تفاهمات سابقة في ضوء المتغيرات الدولية والمستجدات الميدانية الأمر الذي سيدخل البلد في نظام كانتونات (لا مركزية طائفية) تقوم فيه مناطق ضيقة يدير شئونها زعماء مذاهب وطوائف وأمراء حرب.
المسألة خطيرة جداً. وعموماً تبدأ الحروب بالكلام ثم الحشد أو التحشيد ثم الانجرار إلى المواقع عن وعي وادراك وأخيراً ينفلت الشارع من الضوابط ويبدأ الاقتتال الأهلي بإنتاج قوانينه الخاصة وهي ليست واعية وبعيدة عن الادراك.
حتى الآن تبدو القوى المحلية متيقظة وتحاول قدر الامكان ضبط انفعالات الشارع والسيطرة على انحرافاته. كذلك تحاول قدر الامكان تنظيم الخروج وتعيين مناطقه ومفارقه وحدوده. هذا بداية. ولكن حين يتخذ القرار بالخطوة الاولى فإن القيادات الواعية ستنزلق وستفقد مع الوقت قدرتها على الاحتواء وستصبح خاضعة لاجواء الانفعالات والفعل وردود الفعل وصولاً الى اتخاذ قرارات وخطوات لا تنسجم اصلاً مع تفكيرها واستراتيجيتها وشعاراتها.
الواقع له ايقاعاته المختلفة مع القرارات السياسية الواعية فهو يفرض شروطه وينتج على الأرض سياسة ليست بالضرورة متطابقة مع «الايديولوجيا» وانما مجبولة بتعارضات أهلية لا حدود لأطيافها وألوانها. ولا شك في أن هذه المأساة المتوقعة لا يريدها اللبنانيون ولكنهم للأسف لا يفكرون بأنها من الاحتمالات التي ستحصل. فالكل يرسم لفريقه خريطة طريق سهلة وبسيطة إلى درجة السذاجة. عودة إلى السؤال: هل ينزلق لبنان إلى تجربة دموية جديدة أم هناك بالإمكان احتواء الانفعالات ورفض الانجرار إلى أهواء الشارع والضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة؟ الأمور تبدو مقفلة والمؤشرات تدل على أن القوى المحلية وصلت إلى أبواب مسدودة. وحين تنغلق الأبواب بوجه أصحاب الدار لا يستبعد أن يلجأ كل فريق إلى استخدام أسلوبه الخاص في الكسر والخلع?
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1546 - الأربعاء 29 نوفمبر 2006م الموافق 08 ذي القعدة 1427هـ