الفوضى... هي الكلمة الوحيدة التي وجدتها تترجم بصدق ما يجري في المنطقة كلها من حوادث فاجعة، فوضى عسكرية وأمنية تحصد أرواح الضحايا الأبرياء، من العراق إلى دارفور مروراً بلبنان، وفوضى ساسية تنغمس فيها الأحزاب والطوائف في صراعات لا تقل رعباً عن تلك العسكرية، ويختلط فيها الثقافي بالديني بالدنيوي.
هكذا ننام ونصحو وكأنما كابوس «الفوضى الخلاقة» التي ابتدعتها السياسة الأميركية، هو الحاكم الوحيد، واندفعنا من جانبنا «نتطوح» ونترنح كالدراويش في حلقات الذكر، أو كالمجذوبين في حفلات الزار... من دون تفكير ومن دون وعي!
ولندخل مباشرة إلى ساحة من تلك الساحات الصاخبة، فبفضل السياسات الحكومية الخاطئة والمعالجات القاصرة، تمكنت جماعة «الاخوان المسلمين» في مصر من تحقيق أكثر من نصر سياسي ومعنوي، موجهة ضربات سياسية قوية للحكومة وحزبها الوطني الديمقراطي، اللذين يجاهران بمحاربتها باعتبارها جماعة محظورة قانونياً.
نجح الإخوان في المرة الأولى بحصولهم على 88 مقعداً في البرلمان المصري، خلال انتخابات العام الماضي في سابقة فريدة منذ تأسيس الشيخ حسن البنا للجماعة العام 1928، وفي المرة الثانية نجحو في احتلال أماكن مميزة في النقابات المهنية وفي التنظيمات الطلابية والعمالية، وفي المرة الثالثة نجحوا بنزولهم إلى الشارع بأعداد كثيفة وبشعارات علنية، حتى ولو اصطدموا بالأمن، ليثبتوا أنهم القوة السياسية المعارضة الأولى في البلاد.
أما في المرة الرابعة، وهي الأحدث فقد تجلت خلال الاندفاع البرلماني لمحاسبة أو محاكمة وزير الثقافة فاروق حسني، بشأن بعض آرائه في الحجاب، ولقد انتصر الإخوان في هذه المعركة منذ البداية لأنهم فجروا المناقشة الساخنة، واستدرجوا إليها نواب الغالبية أعضاء الحزب الوطني، مثلما استدرجوا وزراء حكومة الحزب الوطني، ورقص الجميع على عزفهم، ليتحقق الهدف.
ومن دون الدخول في تفسيرات كلام وزير الثقافة عن الحجاب، ومدى مسئوليته شخصياً أو بحكم منصبه، فإنني أتساءل، هل ما جرى في مناقشة البرلمان لهذا الأمر، وبالصورة التي جرت وبالهدف الذي تحقق يرجع إلى ذكاء نواب الإخوان في نصب المصيدة، أم يرجع إلى غفلة الآخرين الذين دخلوا المصيدة بأرجلهم.
وبداية يجب إعادة ترتيب هذه المواجهة الصاخبة، وتقويم ما جرى فيها، والنتائج التي انتهت إلى الرأي العام... وظني أنها مواجهة لم تكن كما حاول البعض تلوينها، على أنها معركة دينية تتعلق بالشريعة الاسلامية، وبنص المادة الثانية من الدستور، بقدر ما كانت مواجهة سياسية واضحة بين تيارات تتنازع علانية على اعتلاء المنصة. وتتحصن دفاعاً عن مواقفها في الحكم أو في المعارضة، وتتخذ من ساحات البرلمان والأحزاب والنقابات بل والشوارع ميداناً لممارسة صراع القوى تطلعاً للهيمنة والسيطرة، حتى لو احتاج الأمر إلى استخدام الحجاب الديني والسياسي سلاحاً مشرعاً.
في هذا الإطار نتفهم ما دار قبل أيام فيما يعرف بمعركة الحجاب داخل البرلمان المصري، فقد بدأ بعض نواب «الإخوان» و»المسلمين» الهجوم الساخن على تصريحات وزير الثقافة المتهم بأنه قال في أحد أحاديثه إن الحجاب رمز للتخلف، وتطايرت في القاعة كلمات صاخبة واتهامات صارخة، من نوع كافر زنديق مارق منكر للدين خارج عن الملة شاذ خواجة غير مصري وغير مسلم... وهي اتهامات لو قيلت خارج قاعة البرلمان، لاستحقت المساءلة أمام القضاء باعتباراها قذفاً وسباً.
وكان كل ذلك مفهوماً من جانب المعارضة، لكن المفاجأة هي أن نواب الحزب الوطني، أنصار الحكومة، بل بعض الوزراء وكبار المسئولين الحاضرين، دخلوا الحلبة بأسلحة ثقيلة، وزايدوا على نواب «الإخوان» وركبوا موجة ادانة الوزير الغائب، وهو زميلهم في الحزب والحكومة، كما في الخط السياسي، بل هو أقدم وزير في مصر تبادله خمس وزارات ذهبوا وبقى هو، ربما لكفاءته أو لعلاقاته، وإذا به وبالجميع أمام معضلة، صنعت مفاجأة سياسية وبرلمانية، حتى لنواب «الإخوان»، الذين لم يعودوا ثمانية وثمانين نائباً، بل صاروا في الحلبة أكثر من مئتين وخمسين يتحدثون بلسان واحد.
ومن الطبيعي أن نتساءل مع المتسائلين، أين إذأً «التضامن الوزاري»، وكيف تبدد التضامن والالتزام الحزبي للحزب الحاكم، وكيف باع نوابه وزيرهم وزميلهم لنواب «الإخوان» الذي يناصبونهم العداء علناً، وكيف دخل كل هؤلاء في مزايدات ذات صبغة دينية، بينما دورهم سياسي تشريعي رقابي، وكيف يتطوع وزراء ونواب كبار بإثبات صحة دعاوى «الإخوان»، وصولاً إلى استشهاد أحدهم أن زوجته وابنته محجبتان، وأن السيدة المحترمة يجب أن تتحجب، واستشهاد آخر بأن نصف عدد زوجات الوزراء محجبات، وبالتالي من هن غير ذلك غير محترمات إذاً أخذنا بمفهوم المخالفة.
وساعة قرأت هذا كله تبين لي حجم التورط الذي وقع فيه بعض نواب الغالبية داخل مصيدة نواب «الإخوان» واتضح لي أن المسألة ليست مجرد مزايدة سياسية حزبية، بل هي ربما اتفاق في الرؤى وتوافق في المواقف بصرف النظر عن حكاية الالتزام الحزبي والتضامن الوزاري!
وعادت الذاكرة، ويجب أن تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر، أي قبل أكثر من قرن، حين اشتعلت معركة تحرير المرأة، وحين أصدر قاسم أمين كتابه الشهير العام 1899، وحين لعبت المرأة دوراً هائلاً في ثورة الشعب العام 1919، بل وحين قادت هدى شعراوي معركة خلع الحجاب والبرقع منذ العام 1923، وسألت نفسي، أين نحن الآن من ذلك الذي جرى قبل قرن، هل مازلنا على العهد مع دعوات الاصلاح والتحرر التي أطلقها رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين، أم أننا فعلاً نعاني نقيض ذلك الآن!
الآن... ومن دون الدخول أيضاً في معركة الدفاع عن الوزير أو الهجوم عليه، يحار المرء في موقف الحزب الوطني الحاكم، الذي يحكمنا للعقد الثالث، والذي يرفع راية الاصلاح واطلاق الحريات، والذي يدافع عن المرأة والذي يتحدث أكثر مما يفعل، وأين بالتالي دور المجالس القومية للمرأة وحقوق الأنسان والأحزاب ذات الشعارات اليبرالية والتقدمية والطليعية، إلى ذلك من أوصاف تخرق أسماعنا عبر الميكروفونات فقط، أن تعلق الأمر بالدعاية والمواقف الشفهية والنضالات التظاهرية، لكن حين تأتي المواقف الصلبة التي تحتاج إلى رجال بأفكار ونساء برؤى ومجتمع بمواقف، فإن الأمر سراب خادع.
وإذ لا نتعرض هنا لشرعية الحجاب من الناحية الدينية، ولا لحرية النساء في ارتدائه أو في خلعه، فهذه أمور لا نملك فيها حق الفتوى، فإننا نتعرض للملابسات السياسية التي حدثت من جراء جلسة البرلمان وما جرى فيها من توافق واضح بين المتخاصمين حزبياً المتعاونين سياسياً وايديولوجياً، نواب «الإخوان المسلمين»، من ناحية ونواب الحزب الوطني من ناحية أخرى، وقد التفوا جميعاً حول هدف واحد، هو محاسبة الوزير المتهم واسقاطه، لأنه قال رأياً صواباً أو خطأ.
من ناحيتي لدي ألف سبب وسبب، لساءلة وزير الثقافة، وغيره من الوزراء الحاليين والسابقين، باعتبارهم شركاء في المسئولية الوزارية، وكان على البرلمان الموقر، غالبية وأقلية، سن سكين المحاسبة والمساءلة الحقيقية، في حوادث خطيرة ووقائع جسيمة، دفع فيها الوطن كله ثمناً معنوياً ومادياً باهضاً، وكنت أتصور محاسبة الوزير ومساءلته مثلاً عن مجمل سياسيته الثقافية القائم عليها منذ نحو عشرين عاماً، عن دور مصر الثقافي محلياً وعربياً ودولياً، عن حماية الآثار أو نهب وتهريب الآثار بصورة ملفتة، عن مسئوليته عن حريق مسرح بنى سويف الذي التهم بسبب الاهمال الجسيم، أرواح أكثر من 50 مواطناً بينهم كتاب وفنانون واعدون عن الحرمان الثقافي الذي يعاني منه الريف المصري، على رغم كل ما يقال عن قصور الثقافة.
وامتداد للخط على استقامته أيضاً، كان جديراً بالبرلمان أن يمارس حقه في رقابة ومحاسبة السلطة التنفيذية، الوزارة، على سياسيات طالما أثبتت فشلها، فهناك وزراء بل وحكومات وقعت في ظلها وظلهم، كوارث قومية قاصمة، راح ضحيتها آلاف مؤلفة من فقراء مصر بلا سبب أو نتيجة، ماتوا في العبارات الغارقة والقطارات المحترقة والسيارات الطائرة على الطرق والحافلات المتصادمة بسبب الاهمال، ناهيك عن مصيبة الفقر المتزايد والبطالة المنتشرة وغول الغلاء الفاحش.
وكان جديراً بالبرلمان، محاسبة ومساءلة المسئول عن اختلاط مياه الشرب بالصرف الصحي، على رغم كل ما سمعناه من تفاخر بإنفاق عشرات المليارات، على توصيل الماء العذب للقرى وعلى بناء شبكات الصرف الصحي في الريف والمدن، وكذلك المسئول عن نزف الثروة الوطنية وتبديد أموال المصارف وتهريب الأموال للخارج، وبيع أصول الدولة والمجتمع بأبخس الأثمان في أفدح الصفقات!
قبل معركة الحجاب وبعدها، وبصرف النظر عن نتائجها البرلمانية، نتمنى من البرلمان المنتخب أن يمارس حقه في التشريع والرقابة الصارمة على أموال الحكومة، وان يعيد بعد الضجة الكلامية الساخنة، ترتيب الأولويات التي تستدعى نقاشاً صريحاً ومواقف حاسمة، وخصوصاً أولوية التشريع لاصلاح دستوري سياسي ديمقراطي حقيقي، وليس بطريقة المادة 76 الشهيرة، وأولوية الرقابة على تحالف الفساد والاستبداد، الذي يعبو انتشاره ونفوذه على صراخ المستفيدين من معركة فاروق حسني والحجاب، وأولوية إدارة حوار موضوعي وعاقل بشأن الأزمات الهائلة التي تعصف بكيان المجتمع، من أزمة رغيف الخبز إلى أزمة الاحتقان السياسي والتضييق على الحريات العامة، خصوصاً حرية الرأي والتعبير.
البرلمان الحقيقي في عرفنا، هو القادر على إدارة الأومة، بحكم مسئولياته، جنباً إلى جنب مع مؤسسات المجتمع الأخرى، وليس البرلمان هو القادر على صناعي الأزمة، وتصديرها إلى الشارع مثل كرة اللعب... تجري تكبر وتتطوح ثم تحرق الديار!
خير الكلام:
يقول أبوتمام:
لا أنت أنت ولا الديار ديار
خف الهوى وتولت الأوطار?
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1545 - الثلثاء 28 نوفمبر 2006م الموافق 07 ذي القعدة 1427هـ