وانتهت اللعبة، وتوقفت حمّى الشعارات والوعود الانتخابية في معظم الدوائر الانتخابية، إلا أنه لا بأس من الرجوع إلى خطاب الوعود الذي كان ناشطاً بقوة في الأيام القليلة الماضية. ولكون هذه الوعود جزءاً من خطاب، فإنها تنطوي بالضرورة على مجموعة من المضامين والمطالب والرغبات التي يراد لها أن تجد طريقها إلى التنفيذ والتحقق إذا ما كتب لأصحاب هذا الخطاب أن ينجحوا في الفوز بمقعد في مجلس النواب. وبمعنى آخر فإن خطاب الوعود الانتخابية خطاب يتظاهر بأنه ينطوي على اتجاه ملاءمة من العالم إلى قائمة الوعود، أي إنه خطاب يسعى إلى تكييف الواقع الخارجي بما يتلاءم ويتطابق مع الشعارات والوعود المطروحة. فالمرشّح الذي يرفع شعار «العدالة للجميع»، أو «الوطن للجميع»، أو «تحسين المستوى المعيشي للمواطنين»، أو «توفير الحياة الكريمة للمواطنين»، أو «محاربة الفساد المالي والإداري»، أو «الإصلاح مطلبنا»، أو «التغيير شعارنا» أو «تحقيق العدالة في توزيع الدوائر الانتخابية»، أو «وقف التجنيس السياسي»، أو «توظيف العاطلين»... يفترض فيه أنه سيسعى إلى تحقيق مضمون هذه الشعارات والوعود في حال وصوله إلى مجلس النواب.
وتحقيق هذه الشعارات يفترض إما أن محتوى هذه الشعارات غير موجود فيجري عندئذ السعي لتحقيقه من خلال تغيير الواقع الخارجي ليتناسب مع محتوى الشعار أو البرنامج الانتخابي، وإما أن يكون محتوى الشعارات موجوداً فيجري السعي عندئذ للحفاظ عليه وتعزيزه. وفي كل الأحوال فإن العبرة في تقييم هذه الشعارات هي تحققها (أو السعي في سبيل تحقيقها) من خلال تغيير الواقع الخارجي ليتواءم مع محتوى الشعار والوعد الانتخابي.
ولتوضيح هذه الفكرة، سأستعين بواحد من أهم المنظرين المعاصرين في مجال أفعال الكلام وفلسفة اللغة، وهو جون سيرل الذي صدر له في العام 2000 كتاب عن «العقل واللغة والمجتمع: الفلسفة في العالم الواقعي»، وقد قام سعيد الغانمي، الناقد والمترجم العراقي المتألق، بنقله إلى العربية هذا العام. وفي هذا الكتاب يحلّل سيرل بنية الحالات القصدية، ويميّز بين محتوى الحالات القصدية ونمط هذه الحالات، وهو يقصد بالحالات القصدية حالات من قبيل الاعتقاد والرغبة والرجاء والخوف والتذكر. وعلى سبيل المثال يمكنك أن ترجو أن تمطر السماء، أو تخاف أن تمطر، أو تعتقد أنها ستمطر. فكل هذه الحالات القصدية تنطوي على محتوى واحد هو «أنها ستمطر»، إلا أن هذا المحتوى جرى التعبير عنه بأنماط مختلفة وهي: الرجاء، والخوف، والاعتقاد. ولكل حالة من هذه الحالات «شروط إشباع»، وهو مصطلح يقصد به «شروط الحقيقة» بالنسبة للاعتقادات التي يمكن أن تكون صحيحة أو زائفة، و»شروط التحقق» بالنسبة للرغبات التي تنتظر التحقق. وتحقق «شروط الإشباع» هذه يستلزم معرفة «اتجاه الملاءمة»، فيقال، مثلاً، عن الاعتقادات والافتراضات إنها صحيحة أو زائفة إذا تطابقت أو فقدت التطابق مع العالم الخارجي. ولهذا السبب يقول سيرل إن للاعتقادات اتجاه ملاءمة من العقل (الفكرة وهي في الذهن) إلى العالم والواقع الخارجي، فإذا تطابق الاعتقاد مع معطيات العالم الخارجي يكون صحيحاً، وإذا لم يتطابق يكون زائفاً. أما الرغبات والمقاصد، من ناحية أخرى، فلها اتجاه ملاءمة من العالم إلى العقل، لأن المهم في الرغبات هو التحقق والتنفيذ، أي تغيير الواقع الخارجي بما يتلاءم مع الرغبة.
وينقل سيرل هذا المثال لتوضيح مصطلح «اتجاه الملاءمة» فيقول: «تعطي امرأة زوجها قائمة مشتريات مكتوبة بها مجموعة من الكلمات: مشروب، زبدة، لحم غنم. يأخذ الرجل القائمة ويذهب إلى السوبرماركت ويضع المشتريات في عربة التسوق ليجاري المواد المدونة في القائمة. تعمل القائمة وكأنها أمر أو رغبة، وهكذا يكون لها اتجاه ملاءمة من العالم إلى القائمة. فمسئولية الزوج أن يحاول جعل العالم يتناغم ويجاري محتويات القائمة. فهو يحاول أن يجعل العالم، بصورة مشتريات، يتلاءم أو يجاري المواد في قائمته. ولكن لنفترض أن الزوج كان يتبعه مفتش، وأن المفتش يسجّل ما يضعه الرجل في عربة تسوقه. يكتب المفتش: مشروب، زبدة، لحم غنم، حتى إذا وصلا إلى منضدة المحاسب، كان لدى كلٍّ من الزوج والمفتش قائمتان متطابقتان. مع ذلك، فإن وظيفة القائمتين مختلفة اختلافاً جذرياً. من واجب قائمة المفتش أن تجاري واقعاً موجوداً مستقلاً، إذ تؤدي قائمة المفتش وظيفة وصف أو تقرير لما حدث فعلاً. يفترض أن تكون قائمته مجرد تمثيل للكيفية التي توجد عليها الأشياء. بينما تؤدي قائمة الزوج وظيفة تمكينه من تغيير الواقع ليجعله يجاري محتويات القائمة. المسألة في قائمة الزوج أنها لا تصف الواقع، ولا تمثل الكيفية التي توجد عليها الأشياء، بل تريد تغيير الواقع بحيث يجاري القائمة. في قائمة الزوج اتجاه ملاءمة من العالم إلى القائمة. ولقائمة المفتش اتجاه ملاءمة من القائمة إلى العالم. في لغتنا، هناك مفردات خاصة لوصف هذه التمثيلات التي تفلح أو تخفق في تحقيق اتجاه ملاءمة من القائمة (أو الكلمة) إلى العالم: فإما أن يقال إنها صادقة أو كاذبة. والصدق والكذب هما اسم يطلق على النجاح والإخفاق في اتجاه الملاءمة من الكلمة إلى العالم.
ويمكن أن ترى هذا التمييز بوضوح كبير إذا تخيلت ما يحدث في حالة خطأ. افترض أن المفتش يصل إلى بيته ويدرك أنه ارتكب خطأً، إذ لم يأخذ الزوج لحم غنم، بل لحم بقر. يستطيع المفتش ببساطة أن يصحح الأشياء بشطب كلمة لحم غنم، وكتابة لحم بقر. والآن فإن القائمة صحيحة في تحقيق اتجاه ملاءمة من القائمة إلى العالم. لكن لو وصل الزوج إلى بيته وقالت زوجته: «أيها الغبي، كتبت لحم غنم في القائمة، لكنك جلبت لي لحم بقر بدلاً منه»، فإن الزوج لا يستطيع تصحيح الموقف بالقول: «حسناً، عزيزتي، سأشطب كلمة لحم غنم، وأكتب لحم بقر». والسبب في هذا التمييز أن الزوج، خلافاً للمفتش، تقع عليه مسئولية جعل العالم يتلاءم مع القائمة. بينما تقع على المفتش مسئولية جعل القائمة تتلاءم مع العالم».
وهذا المثال الذي ينقله سيرل يصح تطبيقه على علاقة الشعارات والبرامج والوعود الانتخابية بالعالم. فإذا أعدنا توزيع أطراف العملية فإن الناخبين يحلون محل الزوجة، والمترشح محل الزوج، والوعود الانتخابية محل قائمة المشتريات، والسوبرماركت محل مجلس النواب، ولا وجود هنا لمفتش مستقل قائم بذاته، بل سيصبح الناخبون بعد فوز المترشح بمثابة المفتش الذي يراقب أداء هذا المترشح في مجلس النواب. وسير العملية يكون بالصورة التالية: يقوم المترشح بصوغ وعوده الانتخابية في صورة شعارات يطلقها في قائمة بهدف حمل الناخبين للتصويت له. ويستمر طوال الفترة المفتوحة للدعاية الانتخابية في ترويج هذه الوعود والشعارات حتى يقتنع بها جمهور الناخبين، فإذا اقتنع هذا الجمهور فمعنى هذا أن عليه أن يختار هذا المترشح دون غيره، وثانياً أن تكون الوعود بمثابة اتفاق ضمني؛ لأن على المترشح أن يلتزم بتنفيذها في حال فوزه. وبمعنى آخر فإن الوعود الانتخابية لها اتجاه ملاءمة من العالم إلى قائمة الوعود؛ لأن هدفها لا يكمن في تمثيل الكيفية التي توجد عليها الأشياء في الخارج، بل الكيفية التي نودُّ أن تكون عليها الأشياء، أو نخطط لها لتكون على الصورة التي نريد ونبتغي. فالوعد الانتخابي هو رغبة اقترنت باتفاق يضمن الحرص على تحققها. ويصبح هذا الاتفاق لاغياً في حال رشّح الناخبون مرشحاً آخر، وفي حال تخلى المترشح الفائز عن وعوده أو تكاسل عن عمل اللازم من أجل تحقيق هذه الوعود.
وفي الحالة الأخيرة نفترض أن للنائب وناخبيه قائمتين متطابقتين من الوعود الانتخابية، يأخذ النائب قائمته ويذهب إلى مجلس النواب بهدف تحقيق الوعود المدونة في القائمة. وكما في مثال سيرل السابق فإن القائمة تعمل وكأنها أمر أو رغبة ملزمة، وهكذا يكون لها اتجاه ملاءمة من العالم إلى القائمة. فمسئولية النائب أن يحاول جعل العالم يتناغم ويجاري محتويات القائمة التي انتخب على أساسها. فهو يحاول أن يجعل العالم، بصورة قوانين ومكتسبات، يتلاءم أو يجاري الوعود في قائمته. وفي كل هذه العملية يفترض أن يقوم الناخبون بدور المفتش الذي يراقب أداء نائبهم داخل مجلس النواب، وكما حدث في مثال سيرل، يقوم الناخبون بتسجيل كل وعد تمكن النائب من تنفيذه حتى إذا انقضت السنوات الأربع ووصل الاثنان - النائب وناخبوه - إلى «منضدة المحاسب» ينبغي أن تكون لدى الاثنين قائمتان متطابقتان بما جرى تنفيذه من الوعود المتفق بشأنها. والمهم هنا أن وظيفة القائمتين متطابقة، فعلى خلاف وظيفة قائمة المفتش في مثال سيرل فإن قائمة الناخب والنائب لا تؤدي وظيفة وصف أو تقرير لما حدث فعلاً. المسألة في قائمة الناخب والنائب أنها لا تصف الواقع ولا إنجازات هذا النائب وكتلته، ولا تمثل الكيفية التي توجد عليها الأشياء حتى تتم المبادرة إلى إصدار كتيب يرصد إنجازات هذا النائب وكتلته، بل إن وظيفة القائمة أن تقوم بتغيير الواقع بحيث يجاري الوعود المقطوعة مع الناخب سلفاً. وهنا نقول إن في قائمة النائب والناخب اتجاه ملاءمة من العالم إلى القائمة. وإذا ما أردنا أن نصدر حكماً على صحة أو بطلان اتجاه الملاءمة في هذه الحالة فإن نبحث عن نجاح أو الإخفاق في اتجاه الملاءمة. ومثال الخطأ الذي يذكره سيرل مثال جيد، فلنفترض أن النائب قطع على نفسه وعداً بالسعي لإصدار قانون لمناهضة التمييز الطائفي، أو قانون يؤمن حرية التجمع بصورة مطلقة، أو قانون يحد من الشهوة المكارثية التي تحرّك قانون مكافحة الإرهاب. فكانت النتيجة بعد أربع سنوات أن «إنجازات» النائب الباهرة وكتلته على النقيض من كل هذا: منع صدور قانون مناهضة التمييز الطائفي، العمل بقوة لإصدار قانون مقيد لحرية التجمع، والسعي الحثيث لإصدار قانون مكارثي لمكافحة الإرهاب. فهنا ليس أمام النائب ولا الناخب أن يأتي بقائمة وعوده فيشطب على الوعد الأول ليضع مكانه شيئاً آخر كما فعل المفتش حين صحّح خطأه بوضع لحم غنم مكان لحم بقر، بل إن الذي ينبغي أن يكون هو تماماً كما فعلت الزوجة مع زوجها في مثال سيرل: «أيها الغبي، كتبت قانون مناهضة التمييز الطائفي في قائمة الوعود، لكنك جلبت لي قانون يشرع التمييز الطائفي بدلاً منه». وكما في المثال فإن النائب لا يستطيع تصحيح الموقف بالقول: «حسناً، عزيزي الناخب، سأشطب قانون تشريع التمييز الطائفي، وأكتب بدله قانون مناهضة التمييز الطائفي». والسبب في هذا أن النائب، خلافاً للمفتش في مثال سيرل، تقع عليه مسئولية جعل العالم يتلاءم مع قائمة الوعود. بينما تقع على المفتش مسؤولية جعل القائمة تتلاءم مع العالم. وهنا يصبح من المضحك حقاً أن يأتي النائب نفسه ليقطع وعوداً جديدة أمام ناخبيه ليدعموه في الترشح من جديد، وهنا تحديداً ينطبق ما قاله رئيس الهيئة المركزية بجمعية «وعد» عبدالرحمن النعيمي: «اللي يجرب لمجرَّب عقله مخرّب»، وهنا كذلك لا ينفع أن يأتي النائب ليعتذر أمام ناخبيه عن تقصيره بحجة أن الحكومة كانت تعطل المشروعات أو أنها لم تكن متعاونة، لأنه من حق الناخب أن يرد بالسؤال عما تغيّر بين ليلة وضحاها ليتصور هذا النائب أن الحكومة ستكون متعاونة هذه المرة؟. بمعنى آخر فإن هذا النائب إذا ما راهن على قدرته على تأسيس اتجاه ملاءمة جديد، فإنه سيكون اتجاه ملاءمة باطلاً منذ البداية?
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1544 - الإثنين 27 نوفمبر 2006م الموافق 06 ذي القعدة 1427هـ