وصل أمس الرئيس الأميركي جورج بوش إلى فيتنام لحضور قمة آسيا والمحيط الهادي (ابيك). والزيارة هي الأولى للرئيس الأميركي إلى هانوي وتأتي في إطار جولة آسيوية تشمل سنغافورة وإندونيسيا.
أهمية الزيارة ليست المناسبة وإنما ما تحمله معها من ذكريات أليمة والكثير من المعاني التي ينبغي التوقف أمامها لقراءة المشهد الأميركي - الفيتنامي بعد مرور أكثر من 30 عاماً على توقف الحرب التي انتهت بهزيمة الولايات المتحدة وفشلها في تحقيق أهدافها الاستراتيجية في جنوب شرق آسيا.
القمة إذاً مناسبة لإعادة قراءة المشهد في ضوء ذكرى مؤلمة حملت معها الكثير من الأحلام لعالم جديد بدأت ملامحه ترتسم على خلفية تداعيات مواجهة دموية بين القوة الأولى في العالم ودولة فقيرة قررت تحدي واشنطن في منطقة شهدت صراع إرادات بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.
آنذاك شكل الانتصار الفيتنامي بداية أمل للقوى اليسارية المتطلعة نحو غد تسوده الحرية والعدالة والمساواة. وبسبب ذاك الانتصار عصفت بالعالم أجواء التفاؤل بإمكان حصول تحول تاريخي كبير يسعف الشعوب المظلومة على التحرك ثم التقدم لتحقيق إنجازات سياسية مصيرية وسيادية واستقلالية.
مقابل الانتصار الفيتنامي انكشفت الولايات المتحدة وظهرت قوتها العسكرية ضعيفة أمام إرادة الصمود والتصدي والمقاومة والاستعداد للتضحية من اجل الاستقرار والسلام. فواشنطن آنذاك كانت شبه معزولة دولياً. فالعالم كله تقريباً كان مع فيتنام. كان هناك ما يشبه الاتفاق على أن الولايات المتحدة بدأت مرحلة الهبوط وأنها تلقت صفعة قاسية لن تنساها وربما ستؤدي إلى عزلة أميركية طويلة ستنتهي بها إلى الانهيار العام والتفكك.
هذه التصورات السياسية عكستها بدقة تلك الصور التي تناقلتها كاميرات الصحافة والتلفزة عن اللحظات الأخيرة للهزيمة الأميركية التي انتهت بالهرولة والانسحاب العشوائي من سايغون وسطح مبنى السفارة في عاصمة فيتنام الجنوبية.
كانت فيتنام بعيون العالم المسحوق بالامبريالية الأميركية هي النموذج المختلف والقوة الإقليمية الصاعدة والوجه الجديد لعالم يشرق على شعوب آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية بينما الولايات المتحدة المهزومة شكلت تلك الصورة المظلمة التي أخذت تغيب عن العالم.
عاشت شعوب العالم الثالث لحظات فرح لا تنسى وسط توقعات بإمكان حصول تحولات جديدة تقلب قواعد الجغرافيا وقوانين التاريخ. ومع الأيام بدأت الصورة تتلاشى وتراجعت موجة التفاؤل وأخذ المشهد يغيب عن ذاكرة الشعوب بعد طول انتظار إلى أن جاءت الوقائع تعاكس التحليلات. فأميركا التي خرجت مهزومة حاولت الاستفادة قدر الإمكان من التجربة فأقدمت على توظيف دروسها واستخلاص النتائج من سلبياتها وتداعياتها المرة. وفيتنام التي خرجت منتصرة أقفلت على نفسها باب التطور حين اعتبرت قيادتها ما أنجزته يرتقي إلى مرتبة «المقدسات» وأنها وصلت في تجربتها إلى السقف الأعلى فأحجمت سلطتها عن دراسة الايجابيات والسلبيات وامتنعت عن رؤية ما هو أهم من الانتصار العسكري واكتفت بهذا القدر من المهمات والواجبات الأمر الذي عطل عليها إمكانات توظيف ما حققته وإعادة استثماره في حقول أخرى لا تقل أهمية عن التصدي والتحدي والمواجهة والمقاومة.
بعد الحرب
فيتنام بعد الحرب لم تعد كما كانت قبلها أو خلالها. فهذا البلد الصغير والفقير تعرض إلى دمار شامل وتحطيم لبناه الحجرية والبشرية وكان من الصعب عليه إعادة إعمار اقتصاده من دون سلم أهلي يعزز الثقة بين الناس ويرمم علاقات أنهكتها الحرب وتحتاج إلى رؤية خلاقة تحاول توظيف الانتصار في إطار إنساني ومتسامح ومنفتح على الآخر.
ما حصل في فيتنام بعد الانتصار في الحرب على الولايات المتحدة اتجه نحو الخط المعاكس. فالقيادة مالت نحو تقديس الفرد فأطلقت اسم القائد المؤسس هوشي منه على العاصمة السابقة سايغون وبدأت حملة تخوين وتشهير وانتقام فأعدمت العشرات في الشوارع من دون محاكمات ، وأخذت تشن المعارك الداخلية ضد كل من يخالف أو يعارض وظهرت على جنرالات الحرب أعراض التشاوف على الناس ودول الجوار. وبعدها برز التضخم في الرؤية الأمر الذي افقد قيادة هانوي القدرة على فهم المتغيرات وأسباب القوة فدخلت فيتنام في حال نشوة طويلة من الانتصار إلى درجه أنها أخذت تستفز جارها الضخم الصين من دون وعي للأحجام وموازين القوى.
نشوة الانتصار أسهمت في تحطيم الآمال التي علقت على الأحلام الفيتنامية. فالقيادة السياسية دخلت في حال من السكر العام الذي منع عليها الاستفادة من الانتصار واستخلاص الدروس المتواضعة منه والبناء عليها وتطويرها نحو الانفتاح والتسامح والتفكير ملياً بطبيعة حاجات البشر وما سببته الحرب من نتائج مدمرة تتطلب الخطط لإعادة بناء الإنسان والاقتصاد.
هذه الحال المضطربة أوصلت الجنرالات إلى مرتبة التشاوف على الجيران واستفزازهم وتخويفهم الأمر الذي دفع قيادة بكين إلى الرد فأرسلت الصين قواتها في حملة عسكرية لتأديب قيادة هانوي ونجحت في احتلال الحدود الشمالية من فيتنام.
شكلت الصفعة الصينية هزة نفسية لجنرالات هانوي حين اكتشف هؤلاء أن فيتنام قوية ولكنها ليست الأقوى. وان من ينتصر على قوات أميركية أجنبية على أرضه ليس بالضرورة انه يملك القوة الكافية للانتصار على جيرانه وخصوصاً إذا كان الجار من الحجم الجبار كالصين. وهكذا تلقى جنرالات فيتنام صفعة عسكرية قوية كانت كافية لإسكاتهم فسحبت الصين قواتها من الحدود الشمالية ودخلت هانوي في حال عزلة وخوف فانكمشت على الداخل واستقرت على نظام لا جديد عنده سوى التغني بالانتصار.
في المقابل تعاملت أميركا مع هزيمتها بأسلوب مختلف. فهذه الدولة تحكمها مؤسسات تمثل مصالح شركات (لوبيات ومافيات) ولا يتحكم بها جنرالات. وبسبب طبيعة نظامها السياسي استفادت من تجربتها ولم تلجأ للانتقام من الخصوم. فبعد الانسحاب العسكري قررت واشنطن تطوير أجهزتها وأنظمتها واقتصادها ومعاهدها وشبكة معلوماتها واستخباراتها فأطلقت حملة نقد ذاتي وقراءة مفتوحة للتجربة واستخلصت الدروس حتى تستفيد منها في مناطق أخرى بحثاً عن غنيمة جديدة تلبي حاجات الشركات ومؤسسات التصنيع المدني والحربي.
وبسبب اختلاف التعامل مع التجربة غرقت فيتنام في نشوة الانتصار بينما نجحت أميركا في تجاوز الهزيمة من دون أن تصل إلى مرتبة الخلاص من العقدة النفسية التي تحولت إلى موضوع بحث دائم في حقول الثقافة والشعر والمسرح والسينما. فالتجربة الفيتنامية شكلت للولايات المتحدة تلك المادة الخام التي أسهمت في تصنيعها وتطويرها إلى حد أن أميركا شهدت بعد سبعينات القرن الماضي طفرة اقتصادية ومالية وقفزة تكنولوجية. فالاقتصاد تضاعف حجمه أربع مرات والتكنولوجيا تقدمت درجات نوعية فزادت قدراتها العسكرية وتطورت أجهزتها المعلوماتية الأمر الذي عزز تفوقها على المعسكر الاشتراكي وجعلها قادرة في التسعينات على إسقاط الاتحاد السوفياتي وتفكيك منظوماته السياسية في أوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا.
هذا الانهيار الاشتراكي أمام التطور الأميركي أسهم في توليد نشوة الانتصار على غرار الحدث الفيتنامي. فواشنطن دخلت منذ تسعينات القرن الماضي في حال سكر من النشوة وفي حال افتخار بالقوة وإحساس بالعظمة وإمكان التفوق على العالم من صغاره إلى كباره. ومنذ تلك اللحظات بدأت أميركا تغرق من جديد في تجارب الحروب والغزو والاستيلاء وقهر الشعوب من طريق القوة العسكرية والبطش والتحطيم وفرض الاملاءات على الناس. فالولايات المتحدة الآن تمر في فترة غيبوبة وهي تشبه كثيراً حال الجنرالات الذين عاشوا نشوة الانتصار على الامبريالية في فيتنام.
أمس وصل الرئيس بوش إلى هانوي في زيارته الأولى للأرض التي هزمت القوة العظمى في ذاك الوقت. فبوش الآن يمر في تجربة مرة تتمثل في ملامح صورة تشبه ذاك المشهد الفيتنامي. فالشبح العراقي ليس بعيداً عن تلك الصور التي تناقلتها كاميرات الصحافة والتلفزة من سايغون. كذلك فيتنام التي ودعت جنرالاتها بدأت منذ عقد تبحث عن مخرج ينقذها من نشوة الانتصار حتى لو جاء من عدوها الامبريالي. فهذه الدولة الصغيرة والفقيرة التي انتصرت سياسياً وعسكرياً على أميركا تعتبر الآن الأسوأ اقتصادياً قياساً بمعظم دول آسيا. فالانتصار ولد نشوة أسهمت في تعطيل العقل وتبطيل القوى البشرية على العمل وهذا ما يفسر استعداد قيادة هانوي الجديدة لفتح أبوابها للشركات الأميركية للاستثمار في حقولها وثرواتها النفطية.
أما الولايات المتحدة التي تعاملت بإيجابية مع هزيمتها دخلت من جديد في تجربة تشبه كثيراً تلك الفترة الفيتنامية. فالرئيس الأميركي الذي وصل فيتنام حاملاً معه الشبح العراقي يمر في حال إحباط نفسي سيفرض عليه لاحقاً اتخاذ الخيار الصعب خلال سنة أو سنتين. ولكن ماذا عن العراق بعد الحرب؟ وماذا عن الولايات المتحدة بعد الانسحاب أو الخروج أو تجميع القوات؟ فهل سيكرر العراق التجربة الفيتنامية بعد الحرب وسيتعامل مع أهله كما فعل جنرالات هانوي؟ وهل ستكرر أميركا نقدها الذاتي لتعيد إطلاق تلك الدورة من التقدم الاقتصادي والتقني والمعلوماتي؟
الأجوبة تتصل كثيراً بمنطق التعامل مع الانتصار أو الهزيمة. فالتعامل قوة سلبية أو إيجابية ومن يربح معركة ليس بالضرورة عنده القدرة على الاستمرار في الحرب. وتجربة الانتصار الفيتنامي هي المثال الحي الذي ذهب بوش أمس إلى هانوي لملامسته مباشرة بعد مرور أكثر من 30 عاماً على الحدث التاريخي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1534 - الجمعة 17 نوفمبر 2006م الموافق 25 شوال 1427هـ