حين يجد المرء أن انتماءه الطائفي - وحده من دون بقية الانتماءات الأخرى - صار ذا قيمة تداولية مرتفعة، فإنه سيعمد إلى التبرؤ من الانتماءات الأخرى، وتعزيز انتمائه الطائفي ومراكمة جملة من العلامات التي تدلّ عليه وتعرّف الآخرين به. وهذا كله نتاج سياسات هوية طائفية نشطة. ويمكن لأي امرئ أن يدلل على هذه الظاهرة من خلال أمثلة من السياسات شبه الرسمية لتوزيع «الخيرات والمنافع العامة» بين المواطنين كالتوظيف والترقيات والبعثات والمنح والخدمات الإسكانية وغيرها. أقول شبه الرسمية لأنها سياسات غير محكومة بقانون مكتوب ومعترف به رسمياً أولاً، ولأنها - ثانياً - قد تكون نتاجاً لتصرفات فردية أو جماعية من قبل مسئولين صغار أو متوسطين في الدوائر والوزارات، ولأنها - ثالثاً - قد تكون خارج إطار الدوائر الرسمية كما في حال مجلسي النواب والشورى. وأنا أختار هذه الأمثلة لأنها تعود بنا إلى مقالة «الطائفية علتنا الكبرى» التي افتتحنا بها الحلقة الأولى من مقالتنا هذه.
في مقالة «الطائفية علتنا الكبرى» يرصد الكاتب التنافس الطائفي المحتدم آنذاك على المناصب الحكومية، فيقول: «وهذه الوظائف الحكومية يتصارع عليها أفراد الطائفتين، فإذا ظفر أحد منهم بمنصب مرموق من هذه المناصب، انطلقت الألسن تحتجّ وتتهم وتدعو بالويل والثبور». والحق أن ما يذكره الكاتب هنا ينسحب على السياسات العامة لتوزيع مختلف الخيرات والمنافع والامتيازات العامة كبناء المراكز الصحية والمدارس والجسور وشق الطرق ومدّ شبكة المجاري وغيرها. فمنذ تلك الفترة وحتى هذه اللحظة تجري سياسات توزيع المنافع العامة وفق نموذج جزئي ومرن من المحاصصة الطائفية، وهو جزئي ومرن لأنه غير ملزم في كل وقت ومناسبة. فتوزيع مناصب الوزراء والوكلاء والوكلاء المساعدين والمدراء لا يلتزم حرفياً بهذه المحاصصة. إلا أن الجميع يتذكرون كيف جرى توزيع المناصب الرئاسية في مجلسي النواب والشورى، فتوزيع المناصب جرى وفق محاصصة طائفية مضبوطة حيث كان رئيس مجلس النواب سنياً، ونائبه الأول شيعياً، ونائبه الثاني سنياً. فيما كان رئيس مجلس الشورى شيعياً، ونائبه الأول سنياً، ونائبه الثاني شيعياً، فكأن التوزيع الثاني هو مقلوب التوزيع الأول.
قد تكون المحاصصة هي العتبة الأول في سلم المساواة بين المواطنين، فهي على أقل تقدير أفضل من سياسات الإقصاء والتهميش التي كانت تمارس جهاراً نهاراً ضد طائفة بعينها، إلا أن خطورة هذه المحاصصة أن الالتزام بها سيحوّلها مع الزمن إلى عرف ملزم له قوة القانون تماماً كما هو الحال في لبنان، وكما يجري تأسيسه الآن في العراق. ولكن الأخطر من هذا أن الالتزام بهذا النوع من المحاصصة يفرّغ الطائفية من طابعها المَرَضي، ويؤسس في المقابل للطائفية كهوية قدرية وانتماء متجذّر بين الأفراد، وهذا يرسل برسائل سلبية إلى المواطنين، رسائل تبلغهم بأنه لا قيمة لأي انتماء غير انتمائهم الطائفي.
وتقوم هذه السياسات، بقصد أو من دون قصد، على ترسيخ جوهرانية الانتماء الطائفي، أي أن الانتماء الجوهري الثابت والحقيقي والذي يحسب له شأن وحساب، هو انتماء المرء الطائفي. وبعد هذا لا يهم أن يكون المرء علمانياً أو ليبرالياً أو شيوعياً أو قومياً أو أية داهية في الدنيا، فكل هذا لا قيمة له لحظة التفكير في أسماء لمناصب معينة أو لحظة التفكير في توزيع خيرات ومنافع عامة. والمهم أن يحسم المرء انتماءه الطائفي أولاً وأخيراً، وحبّذا لو كان هذا الانتماء ظاهراً جلياً يأخذ الأبصار من نواحيها كالبيرق أو هو أعظم، كأن يكون هذا الانتماء ظاهراً في الاسم أو في اللقب أو فيهما معاً بحيث يذكّر أحدهم الآخر بحقيقة انتماء المرء الطائفي وبصورة جلية تبدّد حال الشك والريبة التي تنبعث لا في نفوس المسئولين فحسب، بل في ذهنية الرأي العام الذي ينتظر تطبيقاً فعلياً لهذه المحاصصة. وعلى سبيل المثال، فإذا كان لابد من تعيين شيعي في منصب مرموق، أو في وظيفة حارس أمن في وزارة التربية والتعليم، أو في قائمة أعدت للنشر بأسماء الحاصلين على البعثات والمنح والخدمات الإسكانية والقبول في الجامعة، فحبذا لو يكون اسم هذا الشخص: عبد علي، أو عبد الحسين، أو علوي، أو ميرزا، أو ما شابه ذلك؛ والسبب أن هذه أسماء دالة على انتماء المرء الطائفي، وهي لا تحتمل اللبس، وتجنب المسئولين وجع الرأس الذي يأتيهم من تشكيكات الصحافة وضغوطات الرأي العام الذي يطالب بالعدالة بين المواطنين. وإلا كيف يدفع هذا المسئول الطائفي عن نفسه تهمة التمييز الطائفي إذا كانت الأسماء المنشورة محايدة وعديمة الدلالة الطائفية؟ وماذا يفعل مسئول يمارس التمييز الطائفي على الأرض ويسعى إلى الظهور بمظهر المحايد بأسماء محايدة؟ وماذا يستفيد من أسماء من قبيل: سامي غازي، أيمن رامي، فريد راشد، وحيد عادل، نادر سالم أو غيرها؟ كل هذه أسماء عديمة الدلالة في نظام «المحاصصة الطائفية المرنة».
والحق أن تحولات التسمية ظاهرة لافتة في تاريخ البحرين الحديث، ومرّت بمراحل مفصلية بحاجة إلى بحث يتقصاها ويكشف عن مدلولاتها الثقافية والسياسية، فبعد موجة الأسماء القومية والعروبية: جمال، عبد الناصر، أنمار، عبد الحليم، غسّان، قحطان، مضر، عادت الناس إلى الأسماء الدينية والمذهبية. وقد جرى كل هذا كاستجابة لإكراهات السياق العام وتحوّله من المدّ القومي إلى المدّ الإسلامي. ولكن الحال تغيّرت حين تدخّلت الضغوطات الطائفية الداخلية، وحين صارت السياسات تميّز بين الناس على أساس طائفي، الأمر الذي دفع البعض إلى تسمية أبنائه بأسماء محايدة، وأحياناً بأسماء مأخوذة من طائفة أخرى؛ وذلك من أجل تغييب انتمائهم الطائفي وحجبه عن عين الرقيب المتربص، وخوفاً من سياسات التمييز في التوظيف والمناصب والخدمات التي قد يكون الأبناء من ضحاياها، لا لشيء غير أن اسمهم يشير إلى انتمائهم الطائفي المعروف.
أما اليوم فإن نموذج المحاصصة الذي يجري تأسيسه سوف يرفع هذه الحاجة، لأنه سيرفع قيمة أصحاب الأسماء ذات الانتماء الطائفي المكشوف، فإذا كان الاسم ناطقاً بانتمائك الطائفي دون ترجمان، فإن حظوظك لنيل الوظيفة أو المنصب أو البعثة أو المنحة أو الخدمة الإسكانية حظوظ عالية؛ لأن المحاصصة تفترض أن هناك وظائف ومناصب وخدمات محجوزة لأتباع هذه الطائفة أو تلك، ومن ثم فإن من يحصل عليها يجب أن يكون منضوياً تحت لواء واحدة من هذه الطوائف، وهو انضواء ينبغي أن يتعزز بعلامات وقرائن، وأن تقوم عليه دلائل وبراهين، والأسماء هي أكثر هذه العلامات دلالة، وأكثر هذه الدلائل إفحاماً، ولهذا كان لها كل هذه الأهمية. ولو كان المواطنون متميّزين على مستوى اللون والصورة والهيئة لرأيت «المنافع العامة» تتوزع على الناس بحسب ألوانهم وصورهم تماماً كما كان يفعل هتلر والنازيون في ألمانيا إذ كان الأصل العرقي وحده ما يهم الألمان. وتذكر حنا أرندت - المفكرة الأميركية من أصل ألماني - أن الحصول على المهنة مرتبط إلى حد بعيد بالسحنة الآرية، وأن هتلر كان ينتقي أفراد تنظيم مخابراته السرية استناداً إلى صورهم الفوتوغرافية ليس إلا.
قد يكون هذا الكلام صادماً ومباشراً، إلا أن الوضع العام بلغ درجة من السوء والتردي تتطلب مثل هذا القول الصريح المكشوف. فالمكابرة والكلام الناعم الجميل لا ينفع مع هكذا حال. وكل الدلائل تشير إلى أن انبعاث الطائفية اليوم جعلنا في وضع قريب إلى درجة مدهشة مما حدث في حقبة الخمسينات إبان «فتنة محرم 1953» وما قبلها، ولهذا أراني مضطراً إلى أن أختم هذه المقالة بما ابتدأت به، بكلام «ابن ثابت» في العدد الثاني من مجلة «صوت البحرين» في العام 1950، هذا الكاتب الذي كان قادراً على الجهر بالقول الصريح حتى لو كان صادماً كعنوان مقالته: «الطائفية علتنا الكبرى»، وجريئاً كمثل قوله عن هذا المرض وأنه «حقيقة صارخة لا ينكرها إلا كل مكابر يتعامى الدواء لأنه ألف الداء، أو لأنه يفرق من مبضع الجراح. ومن المؤسف أن تكون هذه النعرة الطائفية أشد ما تكون استفحالاً بين السنة والشيعة، وأن المرء المتجرد لا يحتاج إلى جهد كبير ليستبين مظاهر هذا الخلاف الطائفي المتعدد الألوان» (مجلة صوت البحرين، العدد الثاني، 1950، ص11)
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1530 - الإثنين 13 نوفمبر 2006م الموافق 21 شوال 1427هـ