توقفنا عند البعد التوحيدي الروحي، في هذا البعد الأفقي يبرز أمامنا ملحان أساسيان، يرجع أحدهما إلى التكوين النفسي والشعوري لـ(عباد الرحمن)، فيما يرجع ثانيهما إلى السلوك العملي، وهما:
1 - الفقر إلى الله: فقد تكشَّف لهذه الشريحة من الناس حقيقةُ الوجود وطبيعة العلاقات الحاكمة فيه والمهيمنة عليه، والتي تتلخص في: أن اللهَ وحده هو الغنيُّ الحميدُ، وما عداه مخلوقٌ ضعيفٌ، وأنهم جميعاً «لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً» (الفرقان:3) . لذلك فإن (التوحيد) تجذّر في عقولهم معرفيّاًّ، وانعكس على وجدان كلٍّ منهم، فصار (الدعاء)، بالقول والشعور، منطق حياتهم، بل صار جزء لا يتجزأ منها. وبوصلة اتجاههم محددة إلى جهة واحدة، فحسب، هي التي تملك النفع والضر، وبالتالي هي وحدها (من يُدعَى) «الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَر» (الآية:68). وإنما يُنال الخير بـ(الدعاء) الذي يعني، علمياًّ: الإذعان لله تعالى بالربوبية. وعلى أساس هذا الإذعان يستحق (العبد) الخير «... قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ» (الآية:77).
وإذا تجاوزنا البعد النفسي، وهو بعدٌ محوري في ما نحن بصدده، لأن أفعال الإنسان، أياًّ كان، إنما هي انعكاسٌ للقناعات الداخلية عقلياًّ وشعورياًّ. ومن هنا نستوعب قول الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (الرعد:11). إذا تجازنا ذلك، فيجب أن تترجم تلك القناعات في:
ب - السلوك العملي: برنامجُ (عباد الرحمن) نابعٌ من قناعاتهم الوجدانية ورؤيتهم الفلسفية للكون والحياة، المبنية على أساس البرهان والوجدان، والتي تدفع بهم إلى أن يقبلوا الحق أولاً، ويتمثلوه في أنفسهم ثانياً، لينعكس ذلك على سلوكهم ثالثاً، فهم «الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَاماً» (الآية:64).
وحيث استقرت معرفتهم بأن الله (رب) وأنهم (مربوبون)، وأن الله (غني) وأنهم (فقراء) ، وأنهم (محتاجون) وأن الله (جواد) فلا مناص من (الحب والعشق) ولا مناص من (المناجاة) حيث يبث المحب مواجده بين يدي محبوبه. وأفضل الأوقات لذلك (الليل) لذلك فإنهم «يبيتون» دافعهم في ذلك القرب من الله «لربهم» في منتهى الخضوع «سجداً» على أتم الاستعداد لأداء الواجب «قياماً».
البعد الاجتماعي
ليس في الرؤية القرآنية ما يسمح بالتمحور حول الذات وقوعاً في (الأنانية)، لأن ذلك على النقيض من (الأمانة) و(الاستخلاف) اللذان يعنيان أن على عاتق (الإنسان) مسؤولية تجاه (الآخر) إلى جانب مثيلها تجاه (الذات).
أجل، ليس ثمة ارتباط عضوي على مستوى المصير بين (الأنا) و (الآخر)، قال تعالى: «لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» (الأنعام:164)، وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» (المائدة:105).
ولكن على مستوى الدور والوظيفة فإن المطلوب من الجميع أن يتأسوا برسول الله (ص) فـ»لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» (الأحزاب:21)، ويكونوا مشاعلَ هدايةٍ وصلاحٍ «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» (يوسف:108).
ومن هذا المنطلق نجد هذه السورة المباركة، التي تمحورت حول القرآن وتفاعل الإنسان معه، سلباً وإيجاباً، نجدها تركز على جانب مهم من مكونات الشخصية الإسلامية، ذات الطابع التكاملي في ذاتها وفي علاقتها بالآخر ضمن خطوط:
الخط الأول: التواضع: إذا وضعنا بعين الاعتبار (المسئولية) الملقاة على عاتق (الإنسان) وأنه يعيش بين شرائح من الناس، يختلف كل واحد منهم عن الآخر في أفعاله وردود أفعاله، بين الحسن والقبيح، فلا بد من نظام يحكم طبيعة التعامل مع (الآخر). ولا بد أن هذا النظام سينطلق من طبيعة الرؤية للذات والآخر.
وأول ما نلحظه في خطوط التعامل هذه هو ضرورة تكوين الانطباع لدى الآخرين عن (الذات) بحسن التصرف في القول والفعل. فلا يسوغ للإنسان السوي أن يعين نفسه على (الانتفاخ) والتعالي على الآخرين بقول ولا فعل. ومن ثم كان من السمات الأساسية لـ(عابد الرحمن) أنهم متواضعون.ولعل المشي هو السلوك الأبرز في بيان طبيعة الشخصية من حيث (التكبر) و(التواضع) ، لذلك وصفوا بأنهم: «الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً» (الآية:63). ولهذا التواضع أسباب يمكن إجمالها في ثلاثة:
1 - معرفتهم بأنفسهم، التي لا تسمح لهم بالتعالي على الآخرين.
2 - معرفتهم بـ(الآخر) وأنه يقع تحت مسؤوليتهم من حيث إصلاحه وتقويمه، وممارسة ما يتنافى مع التواضع يتنافى وتحمل أعباء هذه المسئولية.
3 - معرفتهم بخالقهم، الذي له وحده الكبرياء والعظمة.
الخط الثاني: الحكمة: في هذا الخط نواجه فن التعامل الإيجابي والحكيم من (عباد الرحمن) تجاه ما يعترض طريقهم في مسارين اثنين:
1 - ما يقع من قبل السفهاء، الذين لا يحسنون التصرف في حق (عباد الرحمن)، فتندّ منهم كلمةٌ نابيةٌ أو فعلٌ مشينٌ في حق (عباد الرحمن) الذين يحسب السفهاء أنهم يريدون أن يتولوا عليهم، من خلال ممارستهم للنصح والتوجيه، أو أنهم يترفعون عليهم إذا ما ثبتوا على مبادئهم ولم يجاروهم في سوء فعلهم وقبيح منطقهم، فيقعون فيهم سباًّ وشتماً... ولأن (عباد الرحمن) يتحلون بالحكمة اللازمة التي تحول بينهم وبين السقوط في وادي الجهل بالتجاوب وسفه السفهاء، فإنهم: «إِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً» (الآية:63).
هم ليسوا طلاب مشاكل، بل حملة سلام من السلام إلى دار السلام، وهذا لا يسمح لهم بالرد على الجاهل بمثل قوله وفعله، وإنما بالصمت تارةً، وهو أحد أشكال السلام، أو بالقول الحسن تارةً، وهو أيضاً من أشكال السلام.
2 - كما أنهم حريصون أشد الحرص على أن يستثمروا عمرهم، وهو قصير مهما طال، بما نافع في عالجهم وآجلهم، لذلك فإنهم لا يشغلون أنفسهم بغير المفيد، والمفيد في منطقهم إنما هو ما يقربهم من الله ويبعدهم عن سخطه، لذلك فإنهم «إِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً» (الآية:72). سواء في هذا اللغو، وهو ما لا قيمة له، الفعل أو القول اللهويان.
يدفعه إلى ذلك شعوره بـ(الكرامة) التي منحها الله إياه، الأمر الذي لن يفرط فيه بلهو ينافي كرامته وسموه.
الخط الثالث: الصدق: في هذا لخط نواجه مسؤولية الكلمة التي يضع عباد الرحمن لها ألف حساب، فهم مؤمنون بأن أكثر ما يودي بالناس إلى النار إنما هو (حصائد ألسنتهم)، لهذا فهم: «لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ» (الآية:72). وهو الكلام الباطل، سواء في مقام الشهادة بين يدي قاض أو ما هو بحكمه، أو في مقام الحديث ينطقون به أو يسمعونه. ومن الزور، وهو الانحراف عن الحق (الغناء) الذي ليس من شأنه التقريب من الله، بل من شأنه الإبعاد عن الله. لذلك فهو ليس من شأن (عباد الرحمن).
ولا يخفى أن لهذا الخط ارتباطاً بالبعد الاجتماعي من جهة والبعد التوحيدي والروحي من جهة أخرى. وهذه الملاحظة نسجلها في جميع الخطوط أيضاً.
الخط الرابع: مراعاة حقوق الغير: في هذا الخط نلمس حساسية فائقة لدى (عباد الرحمن) تجاه النفس البشرية، التي هي في منطقهم أشد حرمة من أي شيء آخر، لذلك فإن إزهاقها وسلب الروح منها، مادياًّ أو معنوياًّ يعد من الكبائر العظمى لذلك فإنهم: «لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ» (الآية:68)، لا فرق في حرمتها بين أن يكون المقتول مؤالفاً أو مخالفاً. أجل، حرمة هذه النفس باعتبارها من (الله) فإن لله أن يضع حداًّ لحرمتها، بما يناسب العدل والحكمة، فقد يسوغ إزهاقها ضمن ضوابط وشروط صارمة. ليس هنا محل التعرض لها.
والذي نقوله، على عجالة هنا، أن لله وحده فقط أن يحكم على أحد بحق الحياة أو الممات، وأن العباد دون استثناء ليس لهم إلا العمل على وفق الضوابط الربانية دون إعمال للاجتهاد والاستنباط السطحي فضلاً عن المنحرف.
الخط الخامس: العفة: في هذا الخط يفجأنا حساسية أخرى لدى (عباد الرحمن) فيما يصوغه النص القرآني، وهي (العفة).
فليس يخفى على أحد ما أودعه الله عز وجل من غريزة جنسية لدى الناس، تنمو لتطفو على السطح في سن البلوغ. وقد تعاملت الشريعة الإسلامية مع هذه الغريزة بكل موضوعية، فلا كبت ولا تسيب، بل وضعت ضوابط واضحة ودقيقة لتنظيم الاستجابة لهذه الغريزة بما يناسب كرامة الإنسان من جهة، وبما يناسب مسؤوليته الاستخلافية من جهة ثانية.
والشكل الوحيد المشروع إسلامياًّ في الاستجابة لهذه الغريزة إنما هو (الزواج وملك اليمين)، فقال تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ» (المؤمنون:5-7). وفيما عدا هاتين الصورتين فهو (زنا) ينبذه الشارع ويمقته ويجرّم فاعله إلى حد العقوبة الدنيوية الصارمة قبل عقوبة الآخرة.
لكل هذا فـ(عباد الرحمن) تحكمهم (العفة) فهم: «لا يَزْنُونَ» (الآية: 68). لعلمهم أن «مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً» (الآية 68) في الدنيا تستوجب العقوبة، وتتضاعف في الآخرة «يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» بل إن ذلك يجعل فاعله ضمن المستحقين للعذاب الدائم من حيث الزمان العميق من حيث المضمون «يَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً» (الآية:69).
والسر في هذا التشديد في الحديث عن (الزنا) لقباحته من جهة «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً» (الإسراء:32)، ولما يستتبعه من موبقات وآثام تنخر في المحيط الاجتماعي من جهة أخرى، فتتهدم البيوت وتتحطم النفوس، وتشيع الجرائم...، ولما يعنيه من هدر للكرامة الإنسانية من جهة ثالثة حيث تكون المتعة الرخيصة غاية للإنسان الذي يفترض فيه أن يكون (كريماً)، فـ(من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته) (نهج البلاغة).
الخط السادس: الاقتصاد والتوازن : في هذا الخط نتعرف على الشعور المرهف لدى (عباد الرحمن) بعبء الأمانة التي تفرض (حسن الإدارة) تارة، وبالانضباط في التعامل مع شهوة الإنفاق على النفس والغير تارةً أخرى. فهم: «الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً» (الآية:67). فلا إسراف في ساحتهم، بمعنى أنهم لا ينفقون أموالهم التي هي أمانة الله عندهم ، والتي أراد الله منهم أن يجعلوها سبباً لنهضتهم الشاملة، والتي يشكل المال أحد مقوماتها الرئيسية، والتي يتنافى معها التعامل السفهي وتمكين السفهاء منها «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً» (النساء:5).
وقد تحول (القوام/الاعتدال) إلى عادة تحكم إنفاقهم فإنهم لا يبنون ما يسكنون، ولا يدخرون ما يأكلون، وهم بطبيعة الحال «الَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (المعارج:25)
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حسن النمر"العدد 1526 - الخميس 09 نوفمبر 2006م الموافق 17 شوال 1427هـ