اليونسكو منظمة دولية وجد مبرّر لبروزها بعد أهوال الحرب العالمية الثانية، على أساس تقديم الحوار بين البشر على الصراع، واختيرت لها مدينة باريس مقراً لأنها مدينة تعنى بالثقافة وتضعها في المكانة التي تستحقها.
على إحدى بوابات اليونسكو الداخلية كُتب نص مقتطف من السند الرئيسي لإنشائها يقول: «لأن الحروب تنشأ في عقول البشر، ففي عقول البشر يجب أن نبني حصون السلام». وهي حكمة بليغة لا يتمثل بها إلا من أوتي حكمة. والتشديد هنا بين الثقافة والأمن هو أن السلام يبدأ في العقول ولا يتبينه الناس إلاّ بالحوار.
لذلك التأم في اليونسكو في الأسبوع الماضي «حوار» متميز وكبير، قامت برعايته مؤسسة البابطين الكويتية سواء بالتحضير له أو الاستضافة، وجمع من بين من جمع رئيس الجمهورية الإيرانية السابق محمد خاتمي، ووزير الثقافة الفرنسي، وممثل البابا بنيديكت السادس عشر، وأمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى، ورجال دين مسلمين ومسحيين ويهود على سوية عالية من العلم، ونخبة من رجال الفكر والكتاب من الشرق والغرب. وعلى مدى ثلاثة أيام كان اللقاء، والفضيلة الموصى بها من أهل العلم هي فضيلة الإنصات للآخر والتعرف على هويته واحترام اختلافه وتفهم مخاوفه.
أنصت المسلم لليهودي والمسيحي للمسلم، وتحققت رؤية إنسانية عظيمة وهي أن «قيمة كل امرئ ما يتقن» كما قال الإمام علي كرم الله وجهه. فالإتقان في تقديم الصورة والرأي المنطقي يكثر الأصدقاء ويقلل من الأعداء، ويقود إلى السلام والأمن ،إنها الرسالة عندما تقدم من أهل الخبرة والرأي.
وقف أحد الفرنسيين العرب (جزائري - فرنسي) متخصص في الفيزياء فتحدث عن المسلمين في أوروبا حديثاً واضحاً ومقنعاً في آن، فهم لم يعودوا «أقلية» في القارة القديمة، وليس هم على هامش الحياة فيها، ففيهم الطبيب المميز والأستاذ الناجح والصناعي الكبير. وكلما اعترف بوجود هؤلاء كمكوّن في النسيج الاجتماعي، كلّما كان ذلك أفضل للجميع، وهم، أي المسلمون يشكلون نحو سبعة في المئة من الشعب الفرنسي، ويقدّر عددهم في أوروبا الغربية بنحو خمسين مليون نسمة، وهو عدد ليس بالقليل، ولم يعد هؤلاء «أبناء نعم... نعم...»، وهو تعبير عن الطاعة العمياء لأبناء المهاجرين في السابق. أصبح لهم قدر من الاستقلالية كي يصبحوا مواطنين كاملي الأهلية ويوافقوا ويختلفوا في القضايا العامة التي تخص مجتمعهم وعلاقاته الدولية، ومن الخطيئة الحضارية الإنسانية أخذ الغالبية بجريرة أقل الأقلية.
أما الرئيس السيد محمد خاتمي فقد قدّم مداخلة متميزة على أهمية حوار الحضارات وقاعدتها احترام التنوع وتفهم الاختلاف مع الآخر، على انه غنى وإضافة في حده الأعلى، وانه وجهة نظر جديرة بالاهتمام في حده الأدنى. وانتقل فكري والسيد خاتمي يتحدث إلى ذلك التعصب الأعمى الذي ينتشر بين الجهلاء في منطقتنا لتقسيم المسلمين فيما بينهم بين «روافض» و»نواصب»، وحتى جهاز الكمبيوتر، وليس الإنسان السوي فقط، يرفض استخدام الكلمتين معاً على أساس غرابتها على اللغة، فكيف لا يتدبر الإنسان خطورة مثل هذا الشقاق على الأمة! في الوقت الذي بُح صوت الحكماء من الجانبين تأكيداً أن لا خلاف في العقيدة، فهي واحدة تعلي الأركان الخمسة، إنما الاختلاف في الفروع، وهو اختلاف انساني مقبول في إطار الاجتهاد الإنساني.
يبدو أن الدين الإسلامي سوف يظل لفترة طويلة بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وبعد حوادث لندن في السابع من يوليو/تموز 2005، وما شابه من الحوادث الجسام، مبتلى ببليتين، الأولى بمن يرى في نفسه القيم على إصلاحه من أبنائه أو من خارجهم، وإدخال من يرون في الدين وإخراج آخرين منه؛ والثانية بمن يرى في نفسه امتلاكه دون البشر وتنصيب نفسه على انه الناطق الوحيد باسمه.
وهاتان الفئتان هما جميعا من أبناء الدين الإسلامي، إلاّ أن الحقيقة المشاهدة أن كلا الفئتين تمثل العدد القليل في فضائنا المسلم الواسع والمتعدد، فهو فضاء يضم من اندونيسيا حتى المغرب، ومن استراليا حتى الدنمارك، ويبلغ تعداده أكثر من مليار نسمة، ومع قلة العدد في الفئتين المتشددتين، فأنهما كثيرتا الضجيج. ومن ساهم في ندوة اليونسكو المشار إليها من القارة الهندية أو الأوروبية أو غيرهما، أشار إلى تلك الحقيقة، بأن رأي الأقلية صاحبة الصوت العالي هو الذي يبدو سائداً، إذا قررت الغالبية الصمت.
في معانقة فاطمة لمريم في رحاب اليونسكو، ومجمل المحاضرات واللقاءات متوفر لمن يريد أن يطلع عليها، انصبت على ضرورة خلق توافق انساني واسع من أجل الخير، ونبذ الفرقة والتناحر.
ليس الغرض هنا استعراض ما قيل وكثيره حكيم، أما الغرض فهو لفت الانتباه إلى أهمية التواصل الثقافي بين الشعوب، وهو القاعدة الرئيسية لبناء توافق عالمي معترف بالآخر ومتفهم لاحتياجاته ومحترم لاختلافاته. وأن تقوم مؤسسة لفرد عربي واحد هو الأستاذ عبد العزيز البابطين بمثل هذه المهمة وبشكل منتظم كل عامين في مدينة غير عربية تجمع لها ما أمكن من النخب الثقافية للتواصل والتعارف وتبادل الخبرات وتصحيح الأوهام والأغلاط بين الطرفين، هي لعمري مهمة صعبة لا يتصدى لها إلا أصحاب الرسائل التي تتعدى ذواتهم إلى أهداف أخرى اجتماعية وثقافية بعيدة المقاصد وإنسانية في طابعها.
ربما لو كان هناك شعار يمكن أن يطلق على الذي حدث في اليونسكو الأسبوع الماضي لكان أقرب شعار له هو «بناء تحالف التسامح» المرتكز أساساً على الفهم والقبول، وهو صلب الرسالات السماوية من جهة، والدعوة المحمدية الحقة من جهة أخرى، وما توصلت إليه البشرية بعد عناء من حكمة، لأنه في «عقول البشر يتأصل الطالح والصالح معاً، ولا نعرف الفرق بينهما إلاّ بالحوار
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1523 - الإثنين 06 نوفمبر 2006م الموافق 14 شوال 1427هـ