تم في المقال السابق استعراض تطور العمل والفكر الخليجي في مجال المياه وبروز المشكلة المائية وتحدياتها المتعددة بشكل واضح في دول المجلس، وتصاعد التحذيرات من استمرار اختلال التوازن بين موارد المياه المتاحة والطلب ونتائجه السلبية على مسيرة التنمية الاجتماعية والاقتصادية في هذه الدول، وبأنه مع بدء عقد التسعينات واجهت دول المجلس تحديات فنية واقتصادية وأمنية وبيئية كبيرة في سبيل توفير المياه الصالحة للاستخدام الآدمي في مواجهة نمو سكاني متسارع، ومتطلبات قطاعات التنمية الأخرى وخصوصاً القطاع الزراعي، وتمثلت هذه التحديات في عدم امتلاك دول المجلس لتقنيات التحلية وعدم تحقيقها أية قيمة مضافة لها في اقتصاداتها على رغم اعتمادها المتصاعد على هذه التقنيات في تحقيق الأمن المائي للسكان، والعبء الكبير لقطاع المياه على كاهل موازناتها المالية، كما واجهت دول المجلس تحديات بيئية كبيرة تمثلت في التدهور المستمر للمياه الجوفية ونضوبها جراء السحب الجائر لها ونضوب العيون الطبيعية وتدهور الموائل الطبيعية المعتمدة عليها وتلوث المياه الجوفية بواسطة الأنشطة السطحية، بالإضافة إلى التلوث الناتج من عمليات التحلية للبيئة البحرية.
وفي خضم هذه المتغيرات والتحديات المائية التي شهدتها الساحة الخليجية عقد في 1997 مؤتمر الخليج الثالث للمياه في سلطنة عمان تحت شعار «المياه في الخليج... نحو استخدام أمثل للموارد المائية «وشارك فيه أكثر من 450 مشاركاً. وغطت موضوعات المؤتمر لأول مرة موضوعات تخطيط وإدارة الموارد المائية واقتصاديات المياه وبدائل تمويل المشروعات المائية ومشاركة المستهلكين، الأمر الذي مثل نقلة نوعية في النظر إلى جذور المشكلة في دول المجلس، عوضاً عن ما كان يجري من التعرض إلى حالة المشكلة وأعراضها فحسب. كما تعرض المؤتمر لأول مرة إلى جانب حماية البيئة كجزء أساسي في إدارة الموارد المائية ومكمل لها، وكذلك خصخصة مرافق وخدمات المياه.
وصدرت توصيات المؤتمر تحمل تركيزا على ضرورة وضع سياسات مائية وطنية شاملة، وأهمية البيانات والمعلومات المائية في عملية التخطيط والإدارة، وأهمية بناء القدرات والتدريب، وإجراءات المحافظة على المياه الجوفية، ورفع كفاءة الري الزراعي المتدنية في المنطقة، وتشجيع البحث والتطوير في مجال خفض كلفة إنتاج المياه المحلاة، ووضع معايير لإعادة استخدام المياه المعالجة تتناسب مع ظروف المنطقة البيئية والاجتماعية والاقتصادية، والقيام بدراسات الأثر البيئي لمشاريع المياه. ومقارنة بالفكر العالمي السائد آنذاك، نجد أن موضوعات وتوصيات المؤتمر الثالث جاءت متماشية بشكل كبير مع ما توصل له هذا الفكر عن «مبادئ الإدارة المتكاملة للمياه» والتنمية المستدامة في إيجاد التوازن بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جانب والمحافظة على المياه والبيئة من جانب آخر.
وفي 1999 عقد المؤتمر الرابع للمياه في البحرين تحت شعار «المياه في الخليج... تحديات القرن الحادي والعشرين» وحضر المؤتمر ما يقارب من 360 مشارك. وكرر المؤتمر تقريباً معظم المحاور الرئيسة التي طرحها المؤتمر السابق، وكذلك إلى حد ما التوصيات السابقة، ما يعكس استمرار الحاجة الملحة لها في المنطقة، إذ أكد المؤتمر في توصياته أهمية التخطيط المائي والتنمية المستدامة لموارد المائية من خلال سياسات مائية وطنية في الدول، وترجمة هذه السياسات إلى تشريعات وتطبيقها، وضرورة الاستثمار في تقنيات التحلية لتوطينها كونها المصدر الأساس لمياه الشرب في دول المجلس. كما أشارت توصيات المؤتمر لأول مرة إلى قضية توزيع حصص المياه بناء على اقتصادات توظيف المياه والميزة النسبية لأوجه الاستخدام في إشارة للقطاع الزراعي المستخدم الأكبر للمياه في دول المنطقة والأقل مساهمة في الناتج القومي المحلي لها.
وفي هذه الإثناء أستمر منحنى الطلب على المياه في دول المجلس في التصاعد، إذ أرتفع الطلب الكلي على المياه لمختلف الأغراض بنسبة 40 في المئة في الفترة من 1990 إلى 2000 (من نحو 20 مليار إلى نحو 27 مليار متر مكعب). وفي القطاع البلدي، وعلى رغم أن الزيادة السكانية ارتفعت بنحو 30 في المئة في دول المجلس خلال هذه الفترة (22.3 مليون إلى 29.8 مليون نسمة)، فقد أرتفع الطلب على المياه في هذا القطاع بنحو 80في المئة، مشيراً إلى تغير أنماط الاستهلاك المائي في اتجاه تصاعدي، ومدللاً على غياب الإجراءات والبرامج الفعالة لتقليل الهدر والإسراف في القطاع المنزلي، الذي يمثل نحو 90 المئة من استهلاك القطاع البلدي. وخلال هذه الفترة، وفي مواجهة الطلب المتزايد للمياه في القطاع البلدي استمرت دول المجلس في اللجوء إلى التحلية كخيار أول في توفير المياه العذبة للسكان. وتم رفع طاقة التحلية الكلية لدول المجلس من 2.5 مليار متر مكعب في العام 1990 إلى حوالي 3.2 مليارات متر مكعب في العام 2000. إلا أن هذه الجهود تمت من دون أن يرافقها قوانين وإجراءات لخفض استهلاك المياه أو خطط استرجاع الكلف.
أما في مجال الصرف الصحي وإعادة الاستخدام، فعلى رغم تحقيق دول المجلس تقدماً كبيراً في مجال توفير خدمات الصرف الصحي وبمواكبة التوسع العمراني المتسارع في هذه الدول في مطلع التسعينات، فإن هذه الإنجازات بدأت تتآكل تدريجياً في وجه الزيادة السريعة في أعداد السكان والتنمية العمرانية وحجم الاستهلاك المنزلي، وخصوصاً في مدن دول المجلس الكبيرة سريعة التمدد، مثل الرياض وجدة والكويت والدوحة ومسقط. وبسبب تخلف عملية إنشاء شبكات التجميع عن معدلات التوسع العمراني، ظهرت الكثير من المشكلات البيئية والصحية المتعلقة بارتفاع مناسيب المياه الأرضية وطفحها وكذلك المشكلات الهندسية من إغراق الأساسات والأدوار السفلى من المباني. ومع الوقت بدأت الإنجازات التي تم تحقيقها في مطلع التسعينات تفقد أهميتها، وبدأت معدلات تجميع ومعالجة مياه الصرف الصحي في دول المجلس في التخلف تدريجياً عن معدلات تغطية خدمات إمداد المياه، ووصلت في العام 2000 إلى ما بين 20-40 في المئة. أما بالنسبة إلى معدلات إعادة الاستخدام فقد ظلت هذه المعدلات منخفضة عموماً كما كانت عليه في مطلع عقد التسعينات، وارتفعت من نحو 400 مليون متر مكعب في العام 1990 إلى نحو 500 مليون متر مكعب في العام 2000، وبما يمثل نحو 2 في المئة من إجمالي الطلب على المياه في دول المجلس آنذاك. وانحصر استخدام هذه المياه في ري المسطحات الخضراء والتشجير وزراعة الأعلاف ولم تعطى هذه المياه قيمتها الاقتصادية الحقيقية تحت ظروف الندرة المائية السائدة في دول المجلس. أما بالنسبة إلى القطاع الزراعي فلقد ارتفع الطلب على المياه في هذا القطاع نحو 30 في المئة. وتعتبر هذه الزيادة كبيرة جداً إذا ما أخذ في الاعتبار أن المياه الزراعية تمثل أكثر من 80 في المئة من المياه الكلية المستهلكة في دول المجلس. وتدل هذه الزيادة عموماً على استمرار السياسات الزراعية الهادفة إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من الإنتاج الزراعي في دول المجلس واستمرار الإعانات الزراعية لتحقيق ذلك خلال هذه الفترة. وبحلول العام 2000 بلغ استهلاك القطاع الزراعي أكثر من 90 في المئة من مجموع المياه الجوفية المستخرجة، في حين كانت مساهمته في إجمالي الناتج المحلي لدول المجلس تتراوح ما بين أقل من 1 في المئة (البحرين والكويت وقطر) إلى 6 في المئة (المملكة العربية السعودية).
ولقد أدى استمرار السحب المفرط للمياه الجوفية بواسطة القطاع الزراعي خلال هذه الفترة بما يتجاوز مستويات الإنتاج الآمنة لها إلى تدني نوعيتها وتملحها وعدم صلاحية مياهها للاستخدام المباشر، وخروج الكثير من الطبقات المائية الجوفية وكذلك الأراضي الزراعية من دائرة الاستثمار وهجرها من قبل المزارعين. ولقد أدى حفر الآبار غير المدروس وغير المقيد، والقصور في تنفيذ الإجراءات القانونية ضد عمليات الحفر غير المشروعة، وطرق الري التقليدية المستخدمة ذات كفاءة الري المنخفضة (30-45 في المئة)، وعدم وجود تعرفة لاستهلاك المياه الزراعية، كل هذا أدى إلى معدلات استهلاك مفرطة بالقطاع الزراعي. كما أدى الاستخدام المكثف والمفرط للأسمدة والمبيدات إلى تلوث الكثير من الخزانات المائية الجوفية في دول المجلس ورفع المخاطر الصحية.
ومع نهاية عقد التسعينات أصبح واضحاً أن ضغط النمو السكاني والسياسات الزراعية يمثلان قلب مشكلة تنمية الموارد المائية والمحافظة عليها في دول المجلس، اذ تفوق معدلات الطلب على المياه في هذين القطاعين الموارد المائية المتاحة ومعدلات تطوير الموارد المائية في دول المجلس. وأدى ذلك إلى تفاقم العجز المائي وتدهور نوعية المياه، كما صاحب ذلك تزايد في العجز الغذائي الذي يتفاقم بدوره مع الزمن بسبب الزيادة السكانية من جهة ومحدودية المياه والأراضي الزراعية وتدهورها من جهة أخرى.
وعلى رغم التحذيرات الكثير التي تم إطلاقها في الكثير من المؤتمرات والمنتديات، استمرت دول المجلس في تركيز جهودها خلال تلك الفترة بالدرجة الأولى على جانب زيادة الإمدادات المائية لتلبية المتطلبات المتزايدة، والتي تمثلت في زيادة مصادرها المائية واستحداث موارد إضافية عن طريق التوسع في بناء محطات التحلية المكلفة، وإعادة استخدام المياه المعالجة، وبناء السدود لحجز المياه السطحية لاستخدامها في الري وتغذية المياه الجوفية، بالإضافة إلى زيادة الكميات المسحوبة من الموارد المائية الجوفية. ولم تول جوانب إدارة الطلب والمحافظة والترشيد الاهتمام المطلوب. ويشار هنا أنه في خلال هذه الفترة انخفض نصيب الفرد الخليجي من المياه المتجددة الطبيعية من نحو 235 مترا مكعبا في العام 1990 إلى نحو 175 مترا مكعبا في العام 2000، إلا انه بفضل جهود دول المجلس الجبارة في إنشاء محطات التحلية أمكن رفع هذه الحصة إلى 284 مترا مكعبا في العام في العام 2000.
كما استمرت معظم دول المجلس في نهجها القطاعي في التعامل مع المياه، إذ استمرت إدارة الموارد المائية من دون تخطيط وطني متكامل، وغابت السياسات الوطنية المائية المتكاملة لقطاع المياه، وفاقم المشاكل التي كان يواجهها قطاع المياه ضعف مؤسسات الإدارة المائية، وتعدد الجهات المسئولة عنها، وافتقار التنسيق فيما بينها، وكذلك بينها وبين الجهات المسئولة عن الأراضي والزراعة والإسكان، وضعف القدرات البشرية والمالية، وعدم مشاركة المستهلكين. وبحلول نهاية عقد التسعينات أصبح الاستمرار في سياسات زيادة الإمدادات المائية موضع تساؤل وشك كبيرين للعديد من المسئولين في دول المجلس. وأدى تفاقم الوضع المائي إلى ظهور تفكير جدي عن إعادة النظر إلى هذه السياسات وجدواها في المستقبل، وخصوصاً أن عدد سكان دول المجلس المتوقع في العام 2025 سيصل إلى أكثر من 55 مليون نسمة، ما يعني انه في حال استمرار دول المجلس في هذه السياسات واستمرار أنماط الاستخدام الحالية فإن الموارد المائية المستقبلية التي يمكن أن توفرها دول المجلس (التحلية وإعادة الاستخدام) لن تستطيع قطعاً بالوفاء بالمتطلبات المائية المتوقعة. في المقال المقبل سيتم استكمال تتبع تطور الفكر والعمل الخليجي في بداية الألفية الثالثة بعد تفاقم المشكلة المائية، التي شهدت منعطفا مهما في التفكير وتحولا جذريا في الكثير من الدول في نظرتها وتعاملها مع المياه
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1521 - السبت 04 نوفمبر 2006م الموافق 12 شوال 1427هـ