إن الديمقراطية ليست عملية ترقيع بمختلف الألوان والأشكال المتنافرة في ظل تكتيكات ظاهرها الخير وباطنها تكتيكات كاذبة مضللة. فإجراء «انتخابات» غير مضمونة في نزاهتها، ومن بعدها الشغل الالهائي والمطالبة بتطوير الديمقراطية التي ليس لها في الأساس وجود قوي، لكي يبدأ الطيبون المخلصون مع توجهاتهم وإرضاءً لضمائرهم الحرث في البحر، أو الكتابة على الرمال، وإذا بنا أمام كثبان تطايرت، وإذا بالضحية الديمقراطية تسأل: «بأي ذنب قتلت» في مهرجانات سباق من يستطيع السرقة أكثر من المال العام الشعبي من غيره!؟ فإذا بالمؤشرات المتناثرة في هندسة الشوارع، ضيقة إلى درجة تصبح فيها المداخل والمخارج للشوارع والطرقات بمثابة عنق الزجاجة، ليأتي العام الذي يليه بنسف الشوارع ويتناثر طوب الأرصفة، ليستبدل بطوب جديد، ومع هذه العملية تهدر الموازنة العامة.
وما دعانا لإثارة هذه الملاحظة هو كثرة سفرنا إلى مومبي، حيث نرى أن بلاط الأرصفة لم يتغير فيها منذ عهد الاستعمار البريطاني وحتى يومنا هذا! أما في البحرين ففي كل عام تنسف بلاطات الأرصفة، وفي الشوارع تنتشر الحفر. ومع أرتال العاطلين المتزايدة التي يغذيها القهر، يرتفع أذان الصبح معلنا عن ولادة ديمقراطية، ويتلفت الشعب يميناً ويساراً ليرى نور ولادتها، فلا يرى إلا ديمقراطية مقيدة، إذ جارت السلطة التنفيذية على أهم صلاحيات مجلس النواب وقيدت حركة أعضائه. بل ان بعض هؤلاء خدعوا المواطنين بشعاراتهم الكاذبة، وتنازلوا عن حقوق الشعب في استجوابات الكثيرين ممن تحوم حولهم الشبهات بشأن المال العام، وانشغلوا بالمطالبة بالسماح للعسكريين بإطلاق اللحى وتقصير الثياب!
وفيما يتعلق بالديمقراطية التي نحن بصدد الحديث عنها والمطالبة بها، ليست حالاً ترقيعية تجسّدها عملية انتخابات معدّة في مخططات مسبقة وتلعب على شق الوحدة الوطنية التي تمثلها الركيزتان الأساسيتان المتآخيتان للوطن (الشيعة والسنة). هذه الوحدة التي تجسدت كواقع يصعب اقتلاعه في مسيرة التطور، كنتيجة حتمية للحركة التاريخية للبشرية في ظواهرها المتصلة بـ «النزوح والترحال»، وحتمية الامتزاجات والتداخلات العائلية، ذلك مصداق لقوله جل شأنه: «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» (الحجرات:13)، وفي حال استمع الضمير الإنساني لهذا النداء الإلهي تسقط ظاهرة الاستعلاء المتمثلة في الاستعراضات البليدة المقززة للنفوس والمنفذة بعيداً عن روح الارتباط والتلاحم.
إن الوحدة الوطنية الاندماجية أصبحت من الصلادة وقوة التماسك بحيث لا تهزها مهازل الطائفية، أو يتلاعب بها أحد من النواب الذي يجهل جهلاً تاماً مفهوم البرلمان، حتى لم يبق لديه غير الضحك على ذقون البسطاء باستجدائه الأموال لتمويل الراغبين في أداء العمرة، وهو بذلك يتجاوز أحد أركان الإسلام الخمسة، وهي «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام «لمن استطاع إليه سبيلاً»، وليس لمن استطاع إليه استجداء أو شحذاً من أموال الشعب البحريني المحروم، الذي هو أولى بها من المشروعات الدعائية لمثل هذا النائب.
قبل عقود، كان يتوافد على البحرين حجاج من أقاصي الهند، ومن السند وطاجكستان وغيرها من بلدان نائية، يخرجون من بلدانهم بالعشرات مشياً على الأقدام ويموتون جوعاً وعطشاً، ولا يصل منهم في نهاية الرحلة الطويلة غير بضعة أفراد، ولا يعرف أحد كيف قطعوا البر ووطأت أقدامهم أرض البحرين. وكانوا يطوفون في مختلف الفرجان والمناطق وهم يستجدون لقمة العيش بعباراتهم المؤثرة: «سندي بابا، فقير مسكين يريد أن يذهب إلى الحج لكن ليس عنده فلوس ولا أكل»، فهل يجوز لمثل هؤلاء أي حج أو عمرة؟
إن مثل هؤلاء النواب، لم تترك لهم السلطة التنفيذية من مهمة برلمانية يطرحونها سوى المطالبة بالسماح للعسكريين بإطلاق اللحية، والتطواف في طول البلاد وعرضها لجمع التبرعات للمعتمرين، جاهلين أو متجاهلين أن حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، وليس من خلال الشحاذة والتسول، على طريقة ما كنا نشاهده في صبانا، وكنا نتعاطف معهم حينها، وقد أدركنا فيما بعد أنها جملة من الأخطاء والمخالفات التي تلصق زوراً بالدين. فحتى فريضة الحج والعمرة من شأنها أن تشوه حقيقة الدين الإسلامي ونصاعته، كما كانت تفعل مجموعات الوافدين على البحرين من أقاصي الديار مشياً على الأقدام، من بلدان بعيدة موت غالبتهم في الطريق، فهل هذا هو الدين؟
إن وعي الشعب البحريني من المتانة والاستيعاب بحيث لم يعد ممكناً ان تنطلي عليه الشعارات التسويقية، إذ ارتبط وعيه وقدرته على فرز الأوراق والأشخاص، واستخلاص النتائج الراقدة خلف الكواليس بتماسكه وبوحدته الوطنية.
إن مثل هذه الاختلالات في المفاهيم والقيم، تدعو إلى تنبيه الشعب بطائفتيه الشيعية والسنية، والتأكيد من جديد أن الديمقراطية التي نادى بها الشعب، وضحى من أجلها بزهرات الكثير من شبابه، ليست ديمقراطية نصوص ومواد دستورية مجردة ومستعصية على التطبيق، أو أن يخوض النواب وحل الذل والانكسار أمام إرادة السلطة التنفيذية
إقرأ أيضا لـ "محمد جابر الصباح"العدد 1519 - الخميس 02 نوفمبر 2006م الموافق 10 شوال 1427هـ