المتمعن في المشروع الإسلامي، نظريةً وتطبيقاً، لا يكاد يلمس تمييزاً بين القول والفعل، بل إنهما يسيران معاً في خلق (الشخصية النموذجية). ولقد اعتمد القرآن الكريم، وهو الدستور الأول والرئيس، لهذا المشروع، مختلفَ الأساليب في تحديد معالم ومكونات هذه الشخصية. فقد بيّن الأسسَ والمنطلقاتِ، وسمّى الشروطَ والضوابطَ، وأزاح الستارَ عن المعوقاتِ والمخاطرِ، وأوضح بشكلٍ جليٍّ الغايةَ والمقصدَ... فليس ثمة غموضٌ أو خفاءٌ.
وبين هذا وذاك أكّد على محورية بعدين في التكوين الإنساني.
البعد الأول هو (الاختيار) فقال تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف:29).
أما البعد الثاني فهو (الفاعلية) «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (الرعد:11).
انطلاقاً من ذلك، وبعد أن قدمنا في الحلقة السابقة (إبراهيم النموذج)، نستعرض الآن الصورة القرآنية لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، الفرد والجماعة، عبر التطواف السريع في سورة الفرقان بين صفات (عباد الرحمن).
إن أول ما يلفت النظر هو أن الأوصاف التي نحن بصدد التعرف على معالمها، جاءت في سياق الحديث عن الإنسان، الفرد والجماعة، وسوء تعامله، في الغالب، مع الوقائع والحقائق. فهو الذي قد يوقع نفسه في الجهل على مستوى اعتقاد الألوهية لغير الله تعالى: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً» (الفرقان:3). ثم يتطور جهله إلى حد التمادي والإصرار على الغي والتنكر للحق الذي جاء به الأنبياء (ع) ممثَّلين بخاتمهم وسيدهم (ص) بمنطق «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً» (الفرقان:4).
وهو يتابع خلق المبررات والذرائع للتمرد على المنطق والواقع، ليمارس عملية تنظير لرفضه، مستثمراً قدراته العقلية! في خلق مبررات الارتكاس في رذيلة الاستكبار والأثرة ليطور من أسباب رفضه لنبوة النبي ووحيانية القرآن بشعار «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً» (الفرقان:5)، من أجل تشكيك المؤمنين بالنبوة والوحي، لما وجدوه من سلامة وتماسك في المحتوى والمضمون، فآيات القرآن، في نظر الكفار ليست سوى (أساطير) وخرافات، جهد في حفظها واستظهارها بتكرارها أول النهار وآخره.
ثم يتابع السياق القرآني حكاية شبهاتهم ويرد عليها، لينتقل، بعد ذلك، إلى الحديث عن الإنسان السوي الذي يتواضع للحق بغير مكابرة ولا استهجان.
نحن إذن أمام نموذجين متنافرين من البشر، نموذج مكابر لا يعرف الحق، أو لا يريد أن يتعرف عليه، وإن هو عرفه فلا يعترف به، ولا يقر بمضمونه. ونموذج على النقيض تماماً حريص أشد الحرص على السمو والكمال، فلا يكاد يقر له قرار، إن جهل شيئاً من الحق، ولا يستقر له بال إن هو قصر في الإذعان له.
ولكلٍّ من النموذجين سماتٌ وصفاتٌ، تنبع من رؤيتين فلسفيتين للكون والحياة والذات (الخالق، والمخلوق).
أماثاني ما يلفت النظر تلك التسمية التي أطلقها القرآن على هؤلاء وهي (عباد الرحمن) المكونة من عنصري (العبودية + الرحمة) بما يستبطنانه من:
أ - عمق في الذات، استلزم الغوص في معرفة الذات والواقع والكون أنتج الخضوع للحق فكانوا (عباد).
ب - وامتداد خارج الذات، إحساساً بالمسئولية وتحقيقاً للاستخلاف.
وهذا العنصران، لا غنى عنها لبناء (الإنسان)، وهما أساسيان، يتفرع منها سلسلة من الصفات والسمات، تتوزع على الذات، في علاقتها بنفسها، وفي علاقتها بالآخر.
ومراعاً للمنهجية سيتوزع البحث على حقول:
الحقل الأول: الغاية
لكل مسيرة غاية وهدف يسعى نحوه السائر، وإلا كان تائهاً، لا يزيده سيره إلا بعداً. وفي مسيرة (الإنسانية) يعِدُ الله، وهو الخالق والرب والمالك والمكافئ عبادَهُ بجنةٍ عرضها السماوات والأرض، ويجعل هذه المكافأة، بكل ما لها من قيمة، هدفاً ينتهي به مضمار السباق، وهو (الجنة) التي تعني وصول العبد إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه، لتكون مستقرهم، فيقول: «أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً @ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَراًّّ وَمُقَامًا» (الآيتان:75-76).
وإلى جانب هذا الهدف، ثمة هدفٌ آخرُ هو الوجه الثاني للعملة، فكما يحدوهم (نشدان الخير) لأنفسهم، فإنهم ينأون بها عن أعلى مراتبه (النار)، ومنطقهم: «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا @ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً» (الآيتان:65-66).
ولأن هذا الهدف، بشقيه، نفيسٌ فلا بد أن له شروطاً ومستلزمات، وذاك ما يشكل:
الحقل الثاني: الشرط
الشرط أشبه ما يكون بالزاد والعتاد الذي لا بد منه في أي مسيرة، وكلما عظمت المسيرة، كلمان كان عدتها أثقل وأخطر. وعدتنا هنا هو ما صاغته مجموعة الآيات بقوله تعالى: «بِمَا صَبَرُوا» (الآية:75).
وذاك يعني قدرة الإنسان على تحمل أعباء «الأمانة» التي وردت ضمن قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً» (الأحزاب:72). ويعني أيضاً أن لهذا الإنسان مهمةً مقدسةً وثقيلةً في آنٍ، تفترض في من يتصدى لها أن يتحلى بالقدرة على احتمال الأعباء والقيام بالمسؤوليات، التي لا يحتملها مخلوق آخر، مهما عظم قدره وكبر حجمه، من سماوات وأرض وجبال. فعليه أن يقدر نفسه قدرها، ولا يبخسها حقها.
ولعل هذه الأمانة هي (الخلافة) التي تعني أن الله عز اسمه أناط بـ(الإنسان) مهمة أن يكون (خليفة الله) في أرضه «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً» (البقرة:30)، وبالتالي (الأشرف والأكرم) بين سائر المخلوقات «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً» (الإسراء:70).
وهذا وذاك يتطلبان (الصبر) والاحتمال والاستقامة «فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ» (هود:112). فلكي تكون أيها الإنسان كما يحب الله عليك بالصبر، أي الثبات على المبدأ، قائماً بما أوكل إليكم من مهمةٍ في جانبي الفعل أو الترك، تؤدي ما أوجب عليك من مقام الربوبية، وتنتهي عن ما حرِّم عليك. وتواجه بـ(الصبر) تحديات الواقع وضغوطات الشهوات... ورغبات النفس...
الحقل الثالث: الصفات والسمات
أما الصفات والسمات فتتوزع على أبعاد ثلاثة: أولاً، البعد الذاتي وفي هذا البعد تشير مجموعة الآيات إلى ثلاث سمات، لا غنى لـ(عباد الرحمن)، الذين هم النخبة والصفوة بين البشر، عنها. وهذه السمات كالتالي:
السمة الأولى: الطموح = الصلاح
لجميع الناس طموحات، وإن كانوا يتفاوتون في طبيعتها، وفي مقدار حركتهم نحوها، وعباد الرحمن، كغيرهم من الناس، يطمحون إلى أشياء وإنجازات، إلا أنهم يمتازون عن غيرهم في طبيعة الطموح ومستواه. فهم ينشدون (الأفضل) دائماً، ومعيارهم في ذلك هو (القرب) من الله، وهذا بدوره لا قيمة فيه لغير التقوى «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (المائدة:27). والتقوى، التي هي الصلاح، من المقامات (النسبية)، قال تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (الحجرات:13)، فهناك- إذن - (تقيٌّ) التزم ما كلف به فعلاً وتركاً، وهناك من هو (أتقى)، وهو الأكثر رعايةً وحرصاً على مراعاة حدود الله. وطموح (عباد الرحمن) أن يكون لهم الحظ الأوفر في (التقوى) بأن يكونوا أئمة، أي قادة متقدمين في التقوى سباقين، لكل هذا فإن منطقهم: «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً» (الآية:74).
السمة الثانية: البصيرة
ابتلي الناس، قديماً وحديثاً، بآفة (القصور المعرفي). ونعني به: الإنسان الذي لا يعرف من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟ وهي تساؤلات يتوقف حسن السير على تحديدِ إجاباتٍ دقيقةٍ عليها. وذاك يعني أن على الإنسان أن يكون يقظاً ، ينشد الحق دائماً «... فَبَشِّرْ عِبَادِ @ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ» (الزمر:18). ومن افتقد البوصلة المعرفية الصحيحة من الطبيعي أن لا يرجى له، ولا منه، الخير. لهذا فإن عباد الرحمن، خلافاً لغيرهم، يتسمون بـ(البصيرة) التي تجعل من أفئدتهم وعقولهم متطلعةً، دائماً، ومنفتحةً، أبداً، على الآيات والبينات والدلائل «وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَاناً» (الآية:73).
وأين هذه الثقافة المتقدمة والمستقبلية مما نشهده من حالات القمع والإرهاب والتحجير التي تمارس على الناس بذرائع شتى، تحول بين (المؤمن) وبين أن يكون على بصيرة من ربه وأمره، ليحسن الدعوة إلى الله كما يريد الله تأسياً برسول الله «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» (يوسف:108). وفي هذه الحالة قد نحصل على إيمان عند هذا وذاك ، ولكنه إيمان مؤسس على (تلقين) وليس على (يقين).
السمة الثالثة: الامتداد الصالح/حب الذات المشروع
يتصف (عباد الرحمن) بسمة (المستقبلية) فلا يقف طموحهم عند ذواتهم، بل يمتد إلى محيطهم القريب، الذي يدخل ضمن دائرة ولايتهم ومسؤوليتهم القريبة. فكما عُنُوا بأنفسهم، عُنُوا أيضاً بأزواجهم وبأبنائهم الصلبيين ومن بعدهم. وهم بذلك يحققون أسمى مراتب (حب الذات)، وهو الأمر الذي يدفع إليه الباري سبحانه، شرط أن يكون ضمن المسار الصحيح، بما لا يستلزم العدوان على حقوق الغير.
ولأنهم يعرفون أن الخير كله من الله «وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ» (النحل:53)، ويعرفون، إلى ذلك، أن دور الإنسان في التأثر على غيره لا يعدو مسألة (الدعوة والبلاغ)، حتى لو كان الممارِس لذلك نبياًّ أو رسولاً «وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (النور:54). لهذا وذاك فهم حريصون على التضرع إلى الله، ولي النعمة، أن يكافئهم على عبوديتهم بأن يقر أعينهم بأزواجهم وذرياتهم، وإنما يكون ذلك بأن يكونوا على نهجهم وطريقته «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ» (الآية 74).
فإذا لاحظنا ما جاء بعد ذلك مباشرة، من قوله على ألسنتهم: «وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً» وقلنا إن الضمير في «اجْعَلْنَا» عائداً على الداعين (عباد الرحمن) والمدعو لهم (الأزواج والذرية) لعرفنا أن هذا إنما هو امتدادٌ لطموحهم الذي أشرنا إليه في السمة الأولى.
وهذه السمات الثلاث تكشف عن استواءٍ في الشخصية على المستوى الذاتي. ولكن من الطبيعي أن ذلك وحده لا يكفي لأن الإنسان ليس نبتةً منفردةً، وإنما هو جزءٌ من كلٍّ، وحلقةٌ ضمن حلقات، لا يستطيع الانفكاك عنها. وهذا ما نلمسه في البعدين الآتيين، مع الإشارة إلى أن أحدَهما عموديٌّ، والآخرَ أفقيٌّ
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حسن النمر"العدد 1519 - الخميس 02 نوفمبر 2006م الموافق 10 شوال 1427هـ