العدد 1518 - الأربعاء 01 نوفمبر 2006م الموافق 09 شوال 1427هـ

حصار الغيبوبة... غيبوبة الحصار

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

لا نحتاج إلى أقراص منوّمة. وجودنا تحت رحمة هذه الملهاة بكل برودها الإنساني والعاطفي، كفيل بإرسالنا إلى نوم لن نفيق منه.

***

الشعر الذي يمجّد ويسبّح ويهلّل ويكبّر وينبطح ويتعرّى، هو جزء من تكريس وتأبيد بقاء تلك الأقراص في يد «الملهاة». فقط نحتاج إلى شيء من الخجل في الضمير والأخلاق، كي نقرر رمي مفاتيح تلك الغيبوبة في مصهر، لا بحر، لأن السلطة تملك البحر ويمكنها بحرسها وضفادعها البشرية أن تسترجعه. وحده المصهر قادر على أن يعيد تلك المفاتيح إلى سيرتها الأولى.

***

«الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا». بمعنى آخر، إذا تم نفخ روح أخرى لحياة أخرى أبدية: انتبهوا. بمعزل عن تلك القيمة الكبرى، نظل في نوم لا حصر له، وموت يتجاوز الرصد. كيف يتسنى لنا بعد ذلك أن ننتبه؟.

***

دول التابو

تجول ببصرك فلا ترى إلا مفازات من الشروط والحرس والعسس والرقابة: دولة/دول من التابو، تمكّس/ تجمرك كل شيء، بدءاً بالحواس، النوايا، التخيل، الأحلام، الكوابيس، وليس انتهاء بما تعانيه ذات قبر وحساب!.

تحاول للمرة الألف أن تفهم: لماذا يتسيّد الأغبياء والحمير، والذين لا يميزون بين الألِف وعمود الكهرباء، المشهد والقرار، فيما الذين أفنوا أعمارهم بحثاً ونحتاً وكشفاً في الدرك الأسفل من المكان والمكانة، وفي المغيّب والمطموس من ذلك المشهد؟.

لا كبير فرق أو حتى مفاجأة في الأمر. الفرق أنهم وضعوا أول وآخر أسرارهم وحتى فضائحهم رهن أجهزة الكشف، ولم ينسوا أن يؤدوا التحية حتى لبهيمة أنعام «الملهاة» وحتى الجثث، ما يدفعهم إلى ادّعاء رؤية هلال العيد في الأسبوع الأول من رمضان!. طالما أن الأمر يتوقف على التحكّم أو وضع حد لمزاج «الملهاة» في صورته المَرَضِيَة والسوداء واليائسة.

***

للمرة الألْف، ماذا يعني ذلك؟ لا شيء سوى أن نبصم بجباهنا قبل الإبهام على وصفات تعِدنا بالجنة، فيما هي في ذروة نواياها وتوجهها الكامل لإلقائنا في جحيم لا صفة ولا عنوان له!.

***

تقرأ الليل باعتباره درساً ذاهباً في حلكة الرؤيا. تقرأ وجوهاً استلبها الليل، باعتبارها صورة أخرى لغيابه الطارئ. تقرأ النهار باعتباره درساً ذاهباً في سفوره. تقرأ مُغيّبين في زواياه استلبهم باعتباره صورة أخرى لحضور لم يستفتِ أحداً.

مجلس غناء في حصار... شكل آخر للغيبوبة

حدّث يوسف بن إبراهيم الكاتب قال: حدّثني أبو إسحق، إبراهيم بن المهدي قال: بعث إليّ الأمين محمد، وهو محاصر فصرت إليه، فإذا هو جالس في طارمة خشبها من عود وصندل، وإذا سليمان بن أبي جعفر المنصور معه في جوف الطارمة، وهي قبة كان اتخذ لها فراشاً مبطّناً بأبدع الحرير والديباج المنسوج بالذهب الأحمر وغير ذلك من الإبريسم) فسلّمتُ فإذا قُدَّامه قدح بلّور مخروز فيه شراب ينفذ مقداره خمسة أرطال، وبين يدي سليمان قدح مثله. فجلست بإزاء سليمان، فأتيت بقدح كالأول والثاني. قال: فقال: إنما بعثت إليكما لمّا بلغني قدوم طاهر بن الحسين إلى النهروان، وما قد صنع في أمرنا من المكروه، وقابلناه به من الإساءة، فدعوتكما لأفرّج بكما وبحديثكما. فأقبلنا نحدّثه ونؤنسه حتى سلا عمّا كان يجده (1) وفرح، ودعا بجارية من خواص جواريه تسمى ضعفاً. قال: فتطيّرتُ من اسمها ونحن على تلك الحال، فقال لها غنّي لنا، فوضعت العود في حجرها وغنّتْ: (من الطويل)

كليبٌ لعمري كان أكثر ناصراً

وأكثر حزماً منكَ ضُرِّجَ بالدمِ

فتطيّر من قولها، ثم قال لها: اسكتي قبّحكِ الله، ثم عاد إلى ما كان عليه من الغم والأقطاب فأقبلنا نحادثه ونبسطه، إلى أن سلا وضحك. ثم أقبل عليها وقال لها: هاتِ ما عندك. فغنّتْ: (من الطويل)

هُمُ قتلوه كي يكونوا مكانه

كما غدَرَتْ يوماً بكسرى مرازبُه (3)

فأسكتها وزأرها وعاد إلى الحال الأولى، فسلّيناه حتى عاد إلى الضحك، فأقبل عليها الثالثة فقال: غنّي، فغنّتْ: (من الطويل)

كأنْ لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيسٌ ولم يسمرْ بمكة سامرُ(4)

بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا

صروف الليالي والجدود العوائر(5)

فقال لها: قومي عنّي فعل الله بكِ كذا وكذا، وصنع بكن فقامت فعثُرَتْ بالقدح الذي كان بين يديه فكسرته، فانهرق الشراب، وكانت ليلة قمراء، ونحن على شاطئ دجلة في قصره المعرف بالخلْد. فسمعنا قائلاً يقول: «قضيَ الأمر الذي فيه تستفتيان» (6). قال ابن المهدي: فقمت وقد وثب، فسمعت منشداً من ناحية القصر ينشد هذين البيتين: (من مجزوء الكامل)

لا تعجبنَّ من العجبْ

قد جاء ما يقضي العجبْ

قد جاء أمرٌ فادحٌ

فيه لذي عجب عجبْ

قال: فما قعدنا معه بعدها إلى أن قتل.

الموصلي يصادف شيطانه

حدّث إسحق بن إبراهيم الموصلي قال: بينا أنا ذات ليلة عند الرشيد أغنّيه، إذ طرب لغنائي، وقال: لا تبرحْ، ولم أزل أغنّيه حتى نام، فأمسكت، ووضعت العود في حجْري، وجلست في مكاني، فإذا بشاب صبيح الوجه، حسن القد، عليه مقطعات خز، وهيئة جميلة، فدخل وسلّم وجلس، فجعلت أعجب من دخوله في ذلك الوقت إلى ذلك الموضع بغير استئذان، ثم قلت في نفسي: عسى بعض ولْد الرشيد ممن لا نعرفه، ولم نره، فضرب بيده إلى العود، فأخذه ووضعه في حجْره وجسّه، فرأيت أنه جس أحسن خلق الله، ثم أصلحه إصلاحاً ما أدري ما هو، ثم ضرب ضرباً، فما سمعتْ أذني صوتاً أجوَد منه، ثم اندفع يغنّي: (من الطويل)

ألا علّلاني قبل أن نتفرقا

وهاتِ اسقني صرفاً شراباً مُروَّقا

فقد كاد ضوء الصبح أن يفضحَ الدجى

وكاد قميص الليل أن يتمزقا

ثم وضع العود في حجْره، وقال: يا عاضّ بُظْر أمه، إذا غنيت فغنِ هكذا. ثم خرج، فقمت على إثره، فقلت للحاجب: من الفتى الذي خرج الساعة؟ فقال: ما دخل هنا أحد ولا خرج. قلت: نعم، الساعة مر بين يدي فتى صفته كيت وكيت. قال: لا والله ما دخل أحد ولا خرج. فبقيت متعجّباً، ورجعت إلى مجلسي، وانتبه الرشيد فقال: ما شأنك؟ فحدّثته القصة، فبقي متعجّباً، وقال: لقد صادفتَ شيطانك، ثم قال: أعد عليَّ الصوت، فأعدته عليه، فطرب طرباً شديداً، وأمر لي بجائزة، وانصرفت.

غفلة... غيبوبة

وذُكِرَ أن رجلاً من العامة بمدينة السلام رفع إلى بعض الولاة الطالبين لأصحاب الكلام على جارٍ له أنه تزندق، فسأله الوالي عن مذهب الرجل، فقال: « إنه مرجئ، قَدَريّ، ناصبي، رافضي! فلما قصّه عن ذلك قال: إنه يبغض معاوية بن الخطاب الذي قتل علي بن العاص، فقال له الوالي: ما أدري على أي شيء أحسدك، على علمك بالمقالات، أو على بصرك بالأنساب!.

وأخبر المسعودي قال: كنا نقعد نتناظر في الخلفاء رضوان الله عليهم جميعاً: أي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية، ونذكر ما يذكره أهل العلم، وكان قوم من العامة يأتون فيستمعون منا، فقال لي ذات يوم بعضهم – وكان من أعقلهم وأكبرهم لحية - : كم تطنبون (7) في علي ومعاوية وفلان وفلان. قلت: فما تقول أنت في ذلك؟ قال: من تريد؟ قلت: علي، ما تقول فيه؟ قال: أليس هو أبوفاطمة؟ قلت: ومن كانت فاطمة؟ قال: امرأة النبي عليه السلام، بنت عائشة، أخت معاوية. قلت: فما كانت قصة علي؟ قال: قُتل في غزاة حنين مع النبي (ص)!.

(1) يحزنه. (2) كليب سيد تغلب، وأخو المهلهل الشاعر المعروف. (3) جمع مرزبان، وهو الرئيس عند الفرس. (4) الحجون والصفا: مواضع بمكة وهما من الشعائر. (5) الحظوظ السيئة الساقطة. (6) سورة يوسف، الآية (41). (7) تكثرون القول

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 1518 - الأربعاء 01 نوفمبر 2006م الموافق 09 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً