في العام 1950 كتب ابن ثابت (وهو اسم مستعار لأحد محرري مجلة «صوت البحرين») مقالاً بالغ الأهمية، وضع له العنوان الآتي: «الطائفية علتنا الكبرى». ولا تكمن أهمية هذا المقال في كونه استطاع تشخيص الوضع العام للمجتمع البحريني المنقسم على نفسه طائفياً ابتداء من اللهجة وانتهاء بالوظائف والمناصب العامة، ولا في كونه استطاع رصد انقسامات لاتزال قائمة حتى بعد مضي أكثر من نصف قرن على كتابة هذا المقال، بل على الضدّ من ذلك، فإن خطورة هذا المقال تكمن فيما جرى على «طائفيتنا» من تحولات فادحة خلال نصف قرن. والحديث عن تحولات لا يعني أن الطائفية تزحزحت عن مواقعها القديمة كثيراً إلا أنها استطاعت تبديل جلدها وتنويع وظيفتها بصورة تبعث على الأسى والإحباط حقاً، أي أننا أمام تحوّل إلى الأسوأ.
كانت «الطائفية علتنا الكبرى» ومرضنا الأكثر فتكاً، الأمر الذي حمل الكاتب على تصوّر مجتمع البحرين في صور جسم «قد اختلت وظائفه، وراح كل عضو فيه يعمل على شاكلته». كان هذا قبل نصف قرن أو يزيد، ثم تغيّرت الأوضاع إلى الأسوأ حتى صار هذا المرض والاختلال الاجتماعي الوظيفي هو هويتنا القَدَريّة التي لا فكاك لأحدٍ منها. وحين كانت الطائفية مرضاً واختلالاً عاماً في وظائف الجسم الاجتماعي كان بالإمكان مداواتها بترياق الوطنية والقومية كما راهنت النخبة الوطنية والقومية المنضوية تحت هيئة الاتحاد الوطني (1954 - 1956). لكن ما السبيل لمداواة مرض تجذّر في النفوس حتى صار هو الهوية القدرية لضحاياه؟ ماذا يفعل المرء بهويته القدرية التي لا خيار له في الانتماء إليها تماماً -أو هكذا يراد لنا أن نتصوّر- كلون البشرة وطول القامة ولون العينين والجنس (ذكراً أو أنثى) والعرق؟ فكل هذه الانتماءات من الهويات القدرية التي على المرء أن يتقبّلها كما يتقبّل القدر النازل به رضي بذلك أو لم يرض.
وهنا يجب علينا أن نستدرك لنطرح هذا التساؤل: هل الانتماء الطائفي هوية قدرية حقاً أم هو هوية اختيارية؟ ومن حيث الأصل فإن الانتماء الطائفي ذو طابع اجتماعي ثقافي لا طبيعي، وما هو كذلك لا يكون قدرياً، إلا أن سياسات الهوية عندنا حوّلت ما هو اختياري ليكون ضرورياً، وما هو ثقافي/اجتماعي ليكون بمثابة الطبيعي. وعلى هذا النحو صار الانتماء الطائفي عندنا بمثابة الانتماء القدري بحكم سياسات الهوية لا بحكم الطبيعة. بل والأخطر من هذا أن هذه السياسات جعلت الانتماء الطائفي هو الانتماء الأكثر جوهرانية وعمقاً من كل الانتماءات الأخرى التي جرى تصويرها كانتماءات عابرة وطارئة. الأمر الذي يتطلب تدقيق النظر في مضمون الانتماء الطائفي، فما حقيقة هذا الانتماء حقاً؟ وما علاقته ببقية الانتماءات القائمة؟
هذه أسئلة قد تبدو ساذجة، إلا أنها أسئلة معقدة، ومحاولة الإجابة عنها قد تكون صدمة لمجتمع لم يتعوّد على الصراحة والمكاشفة بشأن عيوبه، بل إن معظم أشكال تواصله العمومية محكومة بمنطق المجاملة وطلب الستر. إلا أنني سأبدأ في تحليل هذه الأسئلة من خلال صورة تتعمّد المكاشفة البسيطة والصادمة، وأقصد بذلك كاريكاتير نشره الفنان البحريني المبدع خالد الهاشمي في إحدى الصحف المحلية قبل أسابيع، ويظهر في الكاريكاتير أستاذ يسأل اثنين من تلاميذه بعد انتهاء الدرس عن انتمائهما الطائفي، فيقول: «والحين من فيكم السني ومن فيكم الشيعي؟». بعض القراء ذهبوا في تأويل هذا الكاريكاتير مذهباً معتاداً، ففسّروا سؤال الأستاذ على أنه استفهام حقيقي غرضه معرفة الانتماء الطائفي لهذين التلميذين من أجل التمييز بينهما في رصد الدرجات. وقد كانت ابتسامة الأستاذ الماكرة من بين الموجِّهات التي شجّعت على الذهاب بعيداً في هذا التأويل. إلا أن الكاريكاتير يحتمل توجيهاً آخر في اتجاه مختلف، فالأستاذ يسأل الاثنين لأنه عجز عن التمييز بينهما من الهيئة العامة والشكل الخارجي، الأمر الذي يعني أن الانتماء الطائفي ليس انتماء متجذراً وجوهرياً وحاسماً، لأنه لو كان كذلك لظهر على هيئة الاثنين ما يكشف عن انتمائهما الطائفي لأول وهلة.
إلا أن سياسات الهوية تجهد من أجل تحويل هذا الانتماء بالذات إلى انتماء متجذّر وجوهري وحاسم. والمعضلة التي تواجه هذه السياسات هي أن ما يظهر في الواجهة هو هيئة طبيعية من خلق الله كلون البشرة والهيئة الجسمية العامة، وهي عاجزة عن تغيير خلق الله؛ ولهذا فهي تسعى إلى تصدير السمات المميزة ذات الطابع الثقافي في الواجهة لينتفي اللبس وتزول الحاجة إلى السؤال؛ وإلا فلنتخيّل أن الأستاذ في كاريكاتير خالد الهاشمي يملك سجلاً بأسماء تلاميذه، وأنه يعرف أن اسم التلميذ الأول عبدالحسين عبدالنبي، والثاني عثمان عبدالرحمن، فهل سيكون مضطراً إلى السؤال عن انتمائهما الطائفي؟ طبعاً لا، إلا إذا كان له مآرب أخرى من وراء السؤال.
ليس الانتماء الطائفي هوية قدرية، إلا أن سياسات الهوية تجهد ليكون كذلك. والانتماء الطائفي في البحرين محصور في خيارين اثنين: فإما أن تكون سنياً، وإما أن تكون شيعياً، ولا ثالث لهذين الخيارين، وبتعبير آخر: إما أن تكون طائفياً أو لا تكون، هذه هي المعضلة الحقيقية في هذا المجتمع، وهذا هو سؤال هاملت الطائفي عندنا، وهاملت هذا هو النسخة البحرينية من هاملت شكسبير، وعلى رغم أن حيرة هذا الأخير كانت لأسباب شخصية جداً فإنه كان أكثر انفتاحاً حين افتتح مناجاته منذ أكثر من 400 عام بقوله: «أكون أو لا أكون، تلك هي المسألة!»، أمير الدنمارك في رائعة شكسبير كان يرزح تحت حيرة قاتلة بين ما إذا كان من الأفضل له أن يعيش مثقلاً بعبء التزامه بالانتقام لوالده الذي قتله أخوه كلوديوس، أو الانتحار وقتل نفسه والخلاص من هذه الحيرة القاتلة! أما هاملت الطائفي عندنا فحيرته عامة، إلا أن سؤاله الملح أكثر ضيقاً من سابقه: «أكون طائفياً أو لا أكون»، و»لا أكون» هنا قرينة الحرمان لأن سياسات الهوية لا تعترف إلا بأصحاب الانتماءات الطائفية فتغدق عليهم من خيراتها العامة. صحيح أن هناك تمييزاً بحسب الانتماء الطائفي، إلا أن الصحيح كذلك أن كل المؤشرات تشير إلى أننا نؤسس لضرب جديد من المحاصصة الطائفية سنطلق عليها لاحقاً مصطلح «المحاصصة الطائفية المرنة»، والمستفيد من هذا النوع من المحاصصة هم أصحاب الانتماءات الطائفية المكشوفة، أو من يظهر انتماؤه الطائفي من اسمه حتى لو كان خارج دائرة الانتماء الطائفي الفعلي. وعندئذٍ سيصبح تساءل هاملت البحريني: «أكون طائفياً أو لا أكون» هو المعضلة الوجودية الحقيقية! وللحديث صلة في الأسبوع المقبل
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1516 - الإثنين 30 أكتوبر 2006م الموافق 07 شوال 1427هـ