من المعروف أن تاريخ الأنظمة والخدمات الاجتماعية يعود إلى الحضارات القديمة التي أدخلت مفاهيم التكافل و»المساعدات» المقدمة إلى الأفراد الذين يعتبرهم المجتمع غير قادرين على الكسب بأنفسهم. وسرعان ما ارتبطت هذه المفاهيم بالقيم الدينية التي ساعدت على نشرها الديانات السماوية التي تدعو إلى التكافل بين الفئات ورعاية الفقراء وذوي الحاجة, وفى القرون الوسطى قامت الكنيسة في أوروبا باحتكار الأنشطة الرعائية التي مثلت ملجأ للفقراء ووفرت المساعدة المالية والخدمات الصحية والتعليمية, ثم انتقلت أدوار الخدمات الاجتماعية من الكنيسة إلى أن أصبحت إحدى مهمات حكومات الدول مع تطور مفهوم الدولة. وظهر أول قانون اجتماعي في بريطانيا العام 1834 سمي «قانون الفقير» (poor law) الذي حاول أن يعطي تصنيفا للفقراء ويحدد الخدمات التي يمكن أن يحصلوا عليها. إلا أن مفاهيم ما سمي «المسألة الاجتماعية» لم تنطلق فعلياً إلا في أعقاب الثورة الصناعية التي سرعان ما أفرزت عدداً من المشكلات الاجتماعية في العمل وارتفاع التباين في الدخل بين المواطنين, وظهرت الحاجة إلى الأنظمة التي تعمل على حماية ورعاية حقوق المواطنين وخصوصاً العمال وتنظيم العلاقة مع رأس المال. وكانت الحكومة الألمانية هي أول حكومة تصدر مجموعة قوانين العام 1883 لتوفير الرعاية الصحية للأفراد والتأمين الإجباري ضد حوادث العمل ومكافأة نهاية الخدمة. وفي القرن العشرين وفور انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت الدول الاسكندنافية وبريطانيا ترسي ما يعرف بـ «دولة الرفاه الاجتماعي» (welfare state) وأنشأت بريطانيا المؤسسة الوطنية للخدمات الصحية العام 1948 لتقديم خدمات صحية مجانية إلى جميع المواطنين. واستمر التطور في قوانين الشأن الاجتماعي إلى مطلع الربع الأخير من القرن الماضي حين ظهر مفهوم «السياسات» الاجتماعية المتكاملة لأول مرة.
وبرزت مفاهيم التخطيط الاجتماعي المتكامل في الكثير من الدول نتيجةً حتميةً للكثير من التغيرات السياسية والاقتصادية, فكما أن أنظمة وقوانين الضمان الاجتماعي ظهرت فور انتهاء الحرب العالمية الثانية, فإن مفاهيم السياسة الاجتماعية برزت خياراً رئيسياً منذ عدة عقود مواكبةً للتطورات الاقتصادية وزيادة معدلات الإقصاء في الدول, فالعولمة وما نتج عنها من تقلص دور الدولة في السيطرة على عمليات الإنتاج والأنشطة الاقتصادية التي تركتها لحرية العرض والطلب، أدت إلى بروز خصائص مختلفة لحركة رؤوس الأموال ومعايير التوظيف والرواتب وسهولة إغلاق الأنشطة الإنتاجية والتخلص من العاملين وإجبارهم على الدخول في دوائر التهميش الاجتماعي، بينما أوضحت تقارير البنك الدولي عن عدد من تجارب التحول الاقتصادي الذي أنتج نمواً اقتصادياً جيداً لكنه لم ينتج عدالة اجتماعية وخلق طبقات جديدة من المهمشين. كل هذه المشكلات أوضحت مدى الحاجة إلى نظام شامل لسياسات متكاملة يمكنها تحقيق تنمية حقيقية ورفاهية اجتماعية للجميع. ولم تكن مملكة البحرين بمنأى عن هذا التطور, فقد مرت الخدمات الاجتماعية فيها بعدة مراحل في مطلع العشرينات في القرن الماضي من خلال الخدمات التي ركزت على تهيئة القوى البشرية الوطنية, بينما تم التوسع وتطوير الخدمات الصحية والتعليمية في الستينات, ثم بدأ العمل بنظام المساعدات الاجتماعية العام 1972, إلى أن أجريت عدة تعديلات على هذا النظام في العام 1981 ثم مرة أخرى في العام 1995 إذ تم تحديد مجموعة الفئات التي تستحق المساعدات. وشهدت المملكة تطوراً كبيراً للبنيتين الاقتصادية والعمرانية اللتين انعكستا على تقدم مشهود في مجالات التنمية الإنسانية وساهمت في حصول المملكة على المركز الأول في مجال التنمية البشرية بين الدول العربية لتصبح واحدة من الدول النامية القليلة التي تتميز بتنمية بشرية مرتفعة من بين دول العالم، إلا أن سرعة التغيرات الناجمة عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجتها عوامل عدة منها موقع البحرين الجغرافي وتعرضها لتأثيرات التحولات في المنطقة وأعوام «الأحداث» وما قبل الإصلاح ألقت بظلالها وتأثيراتها على ظروف التنمية الاجتماعية في المملكة. بالإضافة إلى تأثيرات العولمة وتحرير الاقتصاد واشتداد المنافسة في أسواق العمل بين المواطن والوافد، ما أدى إلى ظهور الكثير من المشكلات الاجتماعية التي تأتي على رأسها مشكلة تفاقم العوز الاقتصادي, وتظهر إحصاءات وزارة العمل والشئون الاجتماعية سابقاً في العام 1975 أن عدد الأسر التي تتلقى المساعدات كان قد وصل إلى 1984 أسرة, واستمر هذا العدد في التزايد حتى وصل العام 2004 إلى 10887 أسرة مجمل أفرادها يبلغ نحو 22 ألف فرد. هذه المقدمة توضح أن أنموذج التنمية الاجتماعية الذي تم اتباعه إذ أثمر منجزات كبيرة في مجالات متعددة لكنه لم يستطع السيطرة على تفاقم مشكلات الإقصاء الاجتماعي والعوز الاقتصادي وضعف مردود العمل الاجتماعي, وبالتالي كان لابد من إعادة النظر في هذا الأنموذج بشكل كامل. ففي التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2005 وافق مجلس الوزراء على إعادة تنظيم وزارة «الشئون» الاجتماعية، وتغيير مسماها إلى وزارة «التنمية» الاجتماعية، ومنذ ذلك التاريخ بدأت الوزارة في البحث ومراجعة جميع الدراسات والبحوث وتقارير الخبراء التي تم إعدادها في الفترة التي سبقت فصل الوزارتين لتكوين رؤية واضحة لما تطمح إليه الوزارة أهدافاً للتنمية الاجتماعية في المملكة, ومن ثم تم البدء في وضع تصورات لكيفية الانتقال بالبرامج والأنشطة من النهج التقليدي لمفهوم «الشئون» ومناهجه التي تعتمد فكرة الدولة الراعية، المسئولة عن تلبية احتياجات الفرد وتوفير متطلباته والذي لم يثبت نجاحاً كبيراً في أيٍّ من دول العالم, إلى مفهوم «التنمية الاجتماعية»، الذي يؤسس لعلاقات تبادلية سليمة تقوم على أساس التفاعل الايجابي بين الدولة والمواطن ومؤسسات المجتمع, وتعمل على ضمان تحقيق الرقي الذي تشارك فيه كل القوى الاجتماعية.
وحرصاً من وزارة التنمية الاجتماعية على امتلاك رؤية شاملة ومتكاملة لتفاعلات التنمية بأشكالها الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية, تم النظر في كيفية التعامل مع مفاهيم التنمية الاجتماعية بشكل أكثر عمقاً, وتمت مراجعة الدراسات والتقارير التي قدمت من قبل لتحديد المحاور التي تتلاءم مع التوجهات الجديدة للوزارة والمسئوليات التي أوكلتها إليها القيادة السياسية بالمملكة, وتم التواصل والتشاور مع عدد من الهيئات والمنظمات الدولية المتخصصة كالبنك الدولي واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP), وذلك بهدف التوافق مع ما يجري في دول العالم وخصوصاً الاطلاع على التجارب الدولية الناجحة في مجال التنمية الاجتماعية لدول مثل: نيوزيلندا, تونس, كوريا الجنوبية, سنغافورة, كندا, التي تبين نجاحها في الوصول إلى معدلات رفاه اجتماعي مرتفعة من خلال وضع وتطبيق «سياسات اجتماعية متكاملة». وتمركزت هذه السياسات على وضع الأهداف والخطط وتنظيم ومتابعة تنفيذها على المستوى الوطني بالتنسيق مع جميع وزارات وقطاعات الدولة.
فمن الناحية الأكاديمية، يرتبط مجال السياسات الاجتماعية بالكثير من الفروع من العلوم الاجتماعية والإنسانية مثل: علم الإدارة والاقتصاد والحقوق والفلسفة والاجتماع والعلوم السياسية.
ومن الناحية العملية، تقوم السياسات الاجتماعية على مجموعة تدابير وإجراءات وتشريعات وبرامج تشمل كل الأنشطة التي تؤثر في تشكيل الظروف الحياتية للمواطن من حيث التعليم والصحة والإسكان وخدمات الرعاية والحماية وتنظيم العمل الاجتماعي وكذلك تنظيم البيئة المساندة للإبداع والتطور ورقي الأفراد والمؤسسات.
ومن ناحية الأهداف، إن للسياسات الاجتماعية أهدافاً ذات طابع اقتصادي واجتماعي وثقافي على حد سواء، ترتبط بأنشطة وبرامج مخططة للتنمية في المجتمع وهي المعنية بالتغير الحاصل في المجتمع، الذي يُحدِث التنمية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والسكانية, من خلال تفعيل قدرات أفراد هذا المجتمع في الوقت الذي تصب فيه نتائج هذه التنمية في مصلحة المجتمع المذكور, وتعمل على خلق مواطنٍ مشاركٍ وقادرٍ على العيش الكريم ومساهمٍ في حياة تتسم بمستويات مرتفعة من الحرية والإنتاجية والمواطنة الصالحة.
أما الأطراف الفاعلة في وضع وتنفيذ السياسات الاجتماعية, فهي تمثل أقطاب المثلث الثلاثة التي يعتمد عليها المجتمع: الحكومية والقطاع الخاص والقطاع الأهلي, فالأنموذج الجديد من الدولة التي تعنى بالمواطنة والحكم الصالح يعتمد في الأساس على تفعيل قدرات المجتمع وتعظيم الاستفادة منها عبر أنظمة مشاركة وتبادلية تتبنى الشفافية في جميع مراحل التخطيط والتنفيذ.
ونظراً إلى أن السياسة الاجتماعية تمثل عدداً من المحاور والعلميات والنظم ذات الأوجه المتداخلة والمتواصلة، فإن وضع استراتيجية منفصلة للعمل الاجتماعي بمعزل عن باقي الوزارات، لم يعد نهجاً يؤخذ به في وضع السياسات الاجتماعية المتقدمة, كما أن الاستراتيجية الاجتماعية التي تم وضعها من قبل لم تُهْمَل بل أعيد النظر في كيفية تطبيقها والاستفادة منها من خلال وضع الآليات التنفيذية المناسبة لها. واستمدت منها الوزارة الأفكار والتوجهات في عملية بناء رؤية لما ينطلق منها إطار عملها وبرامجها. بدأت الوزارة في وضع أول لبنة من لبنات «السياسات الاجتماعية» من خلال تنظيم مؤتمر وطني تحت عنوان «السياسات الاجتماعية في مملكة البحرين... الرؤية والتطبيق» بمشاركة عدد من الشخصيات المتخصصة في المجالات التنموية في المملكة ومشاركة اللجنتين الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا بالأمم المتحدة وحضور ممثلي مؤسسات المملكة من جميع وزارات ومؤسسات حكومية والقطاعين المدني والخاص، بالإضافة إلى ممثلين عن جهات إقليمية ودولية والإعلام المحلي والدولي, وحضر المؤتمر نحو160 شخصاً ممثلين لهذه الجهات. هذا ومثل المؤتمر فرصة للحوار ومناقشة الشأن الاجتماعي بين عدد من الخبراء الوطنيين وخبراء (الاسكوا) والوزارة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي, وجامعة البحرين, ومركز البحرين للدراسات والبحوث, ووزارة المالية والجهاز المركزي للمعلومات, وتمت مناقشة البحوث وأوراق العمل التي تحلل الوضع الراهن في مملكة البحرين, والتي تركز عليها النقاش. والخطوة التالية في هذا المشروع الحيوي والمهم تكمن في تكوين وحدة بالوزارة لمتابعة وضع السياسة الاجتماعية وفريق من الخبراء ليكون بوتقة للمعرفة والخبرة ويتيح التقدم في هذا المجال تبعاً لأحدث التجارب وأكثرها نجاحاً على مستوى العالم. كما تقوم الوزارة في الوقت ذاته بإعادة تقييم وتشكيل عدد من اللجان الوطنية المعنية بمحاور عمل السياسات الاجتماعية مثل تشكيل اللجنة الوطنية لتنمية الأسر المحتاجة.
وأخيراً، ينبغي التأكيد أن تجارب الدول المختلفة أثبتت أن التنمية الشاملة في أي مجتمع لم تعد تتحقق من خلال تطوير منظومة منفردة للتنمية الاقتصادية أو توفير المسكن والعلاج وإضافة فرص العمل وخلافه بل باتت وليدة التنسيق والتكامل بين جميع القطاعات بالشكل الذي يضمن النهوض بقدرات وإيجاد فرص للمواطن في الترقي وتحقيق الذات. وكما يقول أمارتيا صن في كتابه «التنمية حرية» فإن «هدف التنمية هو زيادة الخيار الإنساني وتهيئة أسباب سيطرة الإنسان على بيئته وقدراته لبناء حاضره ومستقبله من واقع الشعور بالمسئولية الحرة». هذه المسئولية الحرة التي أطلقها المشروع الإصلاحي لجلالة الملك هي المحور الرئيسي في إطلاق تنمية يحققها الفرد وهو المستفيد في المقام الأول من إنجازاتها
إقرأ أيضا لـ "فاطمة البلوشي"العدد 1511 - الأربعاء 25 أكتوبر 2006م الموافق 02 شوال 1427هـ