العدد 151 - الإثنين 03 فبراير 2003م الموافق 01 ذي الحجة 1423هـ

دولنا السمينة جدا: إلى أين المفر؟

أفق آخر (منصور الجمري) editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

الشيوعيون كانوا يدعون إلى مجتمع من دون دولة، الا أن البلدان التي قامت على المبادئ الماركسية تحولت إلى أكبر البيروقراطيات الحكومية في العالم، إلى الدرجة التي عجزت معها كثير من البلدان عن تحمل تبعات تلك المؤسسة الضخمة وسقطت وتحولت إلى مجتمعات تحكمها المافيا بدلا من البيروقراطية الرسمية.

الليبراليون دعوا إلى تقليص حجم الدولة قبل ان يتصاعد حجمها وتسقطهم كما أسقطت الشيوعيين.

حكامنا مازالوا يبحثون عن المزيد من الوسائل لتضخيم حجم الدولة مراهنين على قدرة الدولة على حمايتهم (ليس من أعدائهم) وإدامة عزهم.

الدولة - المؤسسة أصبحت تنمو وتكبر كما تكبر الشجرة، ودورها يتصاعد بصورة حثيثة على المستوى الدولي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. الدولة - المؤسسة تشبعت، ويوما بعد يوم تثقل كاهل نفسها وستسقط عاجلا أم آجلا، اذا لم ترشد نموها، فالشخص الذي يأكل ويأكل ويأكل، سيصبح حجم بطنه ثقيلا على رجليه، ويصاب بأمراض وجع الظهر، ثم تتخلخل احدى فقرات ظهره، ثم يسقط طريح الفراش.

قبل عدة سنوات نشرت إحدى الصحف البريطانية الصغيرة خبرا مفاده ان شخصا صغيرا في العمر، ولكنه ضخم الجثة مات وعجز اثنان من رجال الاسعاف عن نقله من شقته إلى المستشفى، ما اضطرهم إلى طلب نجدة رجال اطفاء الحريق. ولم يستطع الا أربعة اشخاص بعضلات قوية حمله ونقله إلى المستشفى. بعد ذلك نقل المتوفى إلى شركة تحرق الاجساد (عدد لا بأس به من الغربيين يفضلون تحويل الجسد إلى رماد ثم دفنه). الا ان الشركة عجزت عن ادخاله في الفرن المعد لحرق الموتى، ما حدا بهم الاتصال برجال الحريق مرة اخرى ونقله إلى جهة غير معلومة، بعيدا عن كاميرات الصحافيين.

ربما ان مصير دولنا المتضخمة لن يكون أفضل من مصير الشاب الضخم جدا الذي كان متورطا قبل مماته، وتورط به الآخرون بعد وفاته. دولنا المتضخمة متورطة هي بنفسها وسنتورط نحن بعد رحيلها. هذا المصير ليس حتميا فيما لو أدرك بعض العقلاء المسيطرين على دولنا وسارعوا إلى إصلاح الأوضاع قبل فوات الأوان عليهم، وقبل ان نتورط بجثث دولهم المتضخمة.

هناك نظرتان أساسيتان لدور الحكومة في المجتمع. نظرة ترى ان الدولة (الحكومة، البيروقراطية) مؤسسة مدنية هدفها الاساس مساعدة المواطنين على العيش كما يحبون، من دون ان تتدخل هذه المؤسسة المدنية (الخدماتية) في تحديد الافكار والتوجهات للمواطنين. نظرة اخرى ترى ان الدولة مؤسسة تنموية، هدفها تنمية مواطنيها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وتسعى لتوسيع امكانات مواطنيها من خلال توسيع امكانات الدولة ذاتها.

النظرة الاولى ترى ان الفرد هو الاساس، الثانية ترى ان المجتمع هو الاساس. الاولى تدعو إلى الحرية الفردية، و«الرأس مالية» والليبرالية، بينما الثانية تدعو إلى تنمية المجتمع و«الاشتراكية».

لا توجد دولة تؤمن بنظرة دون الأخرى، وانما الموجود هو خليط بين النظرتين، مع تغليب إحديهما على الأخرى، ومن أجل هذا فان الحكومات تفرض الضرائب التي تحدد حرية الفرد، وتنقل تلك الضرائب لمصلحة المجتمع، المزيد من الضرائب يعني ان الحكومة ترى ان تنمية المجتمع في خطر وهي بحاجة الى أن تضغط على حرية الفرد لتأخذ منه شيئا من حقه وتنقله إلى المجتمع.

هناك نمط آخر من الدولة لا يعترف بالفرد ولا يعترف كثيرا بالمجتمع، لأن الحكومة في تلك الدولة تعتقد انها في غنى عن الاثنين. تلك هي الدولة «الريعية» الدولة التي تعيش على «ريع» يغني الماسكين بالسلطة من دون الحاجة إلى أن يرجعوا إلى مواطنيهم (ان كانوا يسمونهم مواطنين) لأخذ ضرائب منهم. هذا الريع قد يكون ذهبا او فضة، او احجارا كريمة، او نفطا موجودا تحت الأرض.

الحكومة في هذه الحال لديها المال الوفير لإسكات المجتمع من خلال توزيع بعض من تلك الثروة على جزء من المجتمع، ومن ثم احتكار ما تبقى واستخدامه لصالح «أصحاب الحق» الماسكين بالسلطة. الدولة الريعية تعيش عادة خمسين عاما على هذا النوع من الثروات، وبعد انتهاء الأعوام الخمسين تجرد الحساب. فان كانت استخدمت تلك الثروات في تأسيس بنية تحتية قوية فان الاعوام المستقبلية ستكون مزدهرة، والا فان عليها الوبال. اسبانيا، مثلا، سيطرت على اميركا الجنوبية في القرن السادس عشر واستنفدت آلاف الاطنان من «الفضة» و«الذهب» في تمويل حروبها الاوروبية، وانتهت بعد ان انتهى المخزون، اصبحت بعد ذلك دولة ضعيفة ليس لها رأي مقابل دول اوروبية اخرى ظهرت وتسلمت دور الريادة.

قد لا تكون المقارنة مع اسبانيا دقيقة، لان التاريخ لا يذكر دولا لا تهتم بأفرادها ومجتمعاتها مثل دولنا المشرقية ودولنا يعجز الاكاديميون عن وصفها او إعطاء موجز عقلاني يمكن من خلاله فهم الامور فيها.

ربما ان دولنا وصلت إلى حال الشاب «السمين جدا» قبل ان تموت، ولهذا فان رجال الاسعاف المحليين والدوليين عاجزون عن تحديد الوجهة التي يأخذون الى هذا الجسد «الحي - الميت» لأن عصرنا اصبح مملوءا بالكاميرات والانترنت

إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"

العدد 151 - الإثنين 03 فبراير 2003م الموافق 01 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً